زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عندما يمكر الصغار (1)
أحد أمتع الأفلام الأمريكية يحمل اسم هوم ألون (أي بمفرده في البيت) من إخراج كريس كولمبس، وقام ببطولته مكولكي كولكن وهو في نحو العاشرة من العمر، ويحكي قصة عائلة أمريكية تتألف من 11 أخا واختا كانوا متوجهين بالطائرة في إجازة الكريسماس وفي زحمة الأشياء، نسوا ولدهم الصغير في البيت.
الفيلم طريف وقد صدر منه جزءان، فقد عاش الطفل ساعات من الخوف في البيت الذي ظل فيه بمفرده، ثم سافر إلى نيويورك واستخدم بطاقات الائتمان (الكريدت كارد) الخاصة بأبيه لركوب الطائرة والعيش في أفخر الفنادق، ومر بمواقف في منتهى العجب، تجعلك تضحك وتنسى أنه وحيد في مدينة «غابة» مثل نيويورك تعج بأسماك القرش البرية.
قبل سنوات قليلة غادرت الدوحة إلى لندن مع زوجتي بغرض الصيانة الطبية الدورية، بعد أن أفتى طبيب آسيوي في قطر بأن «سيستم مال انت كلش خراب ولازم سوي تشييك في كلينيك في لندن»، وكان مقرراً أن يلحق بنا عيالنا الأربعة بعد أسبوع، أي بعد أن نفرغ من التشييك الأولي في كلينيك مال لندن.
وصل العيال إلى المطار الدوحة ليركبوا طائرة الى لندن، ولكن خبيرا آسيويا آخر أفتى بأنه لا يجوز لأصغر عيالي أن يسافر إلى لندن لأن تأشيرة دخوله إلى بريطانيا تشير إلى انه برفقة والديه، وبما أنه كان قاصرا - دون الخامسة عشرة - فلا مجال لسفره إلا مع أحد والديه. ووقع اخوته في حيص بيص، فعندما قرروا العودة جميعاً إلى البيت حتى يحصل أخوهم الصغير على تأشيرة صحيحة قال لهم الخبير إن فرص حصولهم على مقاعد في رحلات جوية لاحقة مثل فرص تحرير فلسطين خلال الخمسين سنة المقبلة بفرق الكشافة المسلحة!! وهكذا عاد الولد الصغير أدراجه مع أحد أقاربنا، وجاءنا أخوته الكبار في لندن بعد أن زودوه ببعض المال. وعشت أتعس ثلاثة أيام في حياتي لأن زوجتي اعتبرت ولدها الذي بقي في الدوحة - بينما كل أفراد العائلة في لندن - في عداد المفقودين، ولم يكن الأمر مجرد قلق بل الحكاية كان فيها دموع وأرق وسهر: يا ترى الولد عامل شنو؟ يا بنت الناس الولد مع أهله وأقاربه وسيكون معنا فور تصحيح تأشيرته.. مفيش فايده.. الولية ظلت تندب وتبكي على ولدها المسكين.
واتصلت بالولد المسكين ووجدته في منتهى الانبساط فقد قرر أن يمكث في بيتنا بمفرده (هوم ألون). استغفر الله. أقنع قريبنا الذي عاد به من المطار أنه بحاجة إلى الكمبيوتر الخاص بالعائلة «لإجراء بعض الاتصالات والتحريات»، على أن يعود ذلك القريب ويأخذه إلى بيته في الحادية عشرة ليلاً، ونجحت خطته الساذجة لأن قريبه لم يكن يفهم شيئاً عن أمور الكمبيوتر وبالتالي لم يكن يعرف أن أي كمبيوتر يقوم مقام كمبيوتر آخر في أمور التراسل والتواصل، وهكذا ظل الولد في بيتنا بمفرده نحو عشر ساعات يومياً لثلاثة أيام قضاها حسب تعبيره في عز ونغنغة وبحبحة: جميع الوجبات السريعة التي كنت أحرمه منها صارت تصله إلى البيت. اشترى الآيسكريم بالجردل (السطل). اشترى بطاقات شحن موبايل تكفي للإدلاء بتصريحات في خمس قنوات فضائية أو تقديم خطبة أمام الجامعة العربية عبر الأقمار الصناعية. بعبارة أخرى أحس الولد أن البعد عن الوالدين «نعمة وحرية».
وأحسست بالذنب: أنا وأمه لم نعرف النوم رغم أننا كنا نعرف أنه في أيدٍ أمينة، وكنا سعداء لاصطحابه معنا الى لندن التي يحبها، لأنه فتح عينيه على الدنيا فيها عندما كنت أعمل فيها في هيئة بي بي سي، وله فيها اصدقاء طفولة، ولكن ها هو يبدو أكثر سعادة لأنه بعيد عنا، فهل أنا وأمه «فاشلان كوالدين»؟ لا أظن ذلك، ولكنه كان سعيدا بأنه عاش بضعة أيام بلا قوانين تنظم مواعيد اللعب والنوم، وكما اعترف لاحقا «أجمل ما في الموضوع أنه لم يجبرني أحد على تناول سلطة الخس والخيار».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك