العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لا للسياسة ونعم لغزة فقط

على‭ ‬غير‭ ‬عادتي‭ ‬خضت‭ ‬خلال‭ ‬اليومين‭ ‬الماضيين‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬يقول‭ ‬الناس‭ ‬عنه‭ ‬إنه‭ ‬سياسي،‭ ‬وكان‭ ‬يتعلق‭ ‬بما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬الذين‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬مَعَزَّة‭ ‬من‭ ‬إبادة،‭ ‬ولكن‭ ‬كما‭ ‬أوضحت‭ ‬في‭ ‬ذينك‭ ‬المقالين‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬عندي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سياسيا‭ ‬بل‭ ‬أخلاقيا؛‭ ‬أي‭ ‬انني‭ ‬اعتبر‭ ‬السكوت‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬عارا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالإنسان‭ ‬السويّ‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬دينه‭ ‬أو‭ ‬عرقه‭.‬

وقد‭ ‬تعرضت‭ ‬مرارا‭ ‬لعتاب‭ ‬القراء‭ ‬لأنني‭ ‬في‭ ‬تقديرهم‭ ‬لا‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬السياسية‭ ‬الملحّة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬قراء‭ ‬عديدين‭ ‬طالبوا‭ ‬بأن‭ ‬تعرج‭ ‬زاويتي‭ ‬هذه‭ ‬على‭ ‬الشؤون‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬ويطيب‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬تجاهلي‭ ‬التام‭ ‬لهذا‭ ‬المطلب‭ ‬المجحف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬أناس‭ ‬لا‭ ‬يكنون‭ ‬لي‭ ‬أي‭ ‬مودة‭: ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬أنا‭ ‬عندي‭ ‬عيال‭ ‬مازالوا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلي‭ ‬فلماذا‭ ‬تريدون‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التهلكة‭ ‬أو‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬مدى‭ ‬الحياة؟

ولكن‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬بطريقة‭ ‬ما‭ ‬يطلبه‭ ‬المستمعون،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أمانع‭ ‬في‭ ‬تلبية‭ ‬ذلك‭ ‬المطلب‭ ‬إذا‭ ‬منحتني‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬بوليصة‭ ‬تأمين‭ ‬ضد‭ ‬الملاحقة‭ ‬والبهدلة‭ ‬ومعها‭ ‬مكافأة‭ ‬مقطوعة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬578‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني،‭ ‬وبعدها‭ ‬سأهاجر‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬تموت‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬حيتانها،‭ ‬وأكتب‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬العربية،‭ ‬واللي‭ ‬بدو‭ ‬يصير‭ ‬يصير،‭ ‬طالما‭ ‬لن‭ ‬تطول‭ ‬الأجهزة‭ ‬المعنية‭ ‬أبا‭ ‬الجعافير‭.‬

وثمة‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬ظل‭ ‬يحملني‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬أنني‭ ‬عديم‭ ‬اللون‭ ‬السياسي؛‭ ‬ففي‭ ‬صباي‭ ‬أفتت‭ ‬أمي‭ ‬بأنني‭ ‬شيوعي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رفضت‭ ‬شرب‭ ‬ماء‭ ‬مخلوط‭ ‬ببصاق‭ ‬رجل‭ ‬كان‭ ‬يزعم‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬البركة‭ ‬والمعجزات‭. ‬ففي‭ ‬يوم‭ ‬ختان‭ ‬صبي‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأشراف‮»‬‭ ‬أعطتني‭ ‬أمي‭ ‬عشرة‭ ‬قروش‭ ‬كي‭ ‬أدفعها‭ ‬له‭ ‬كعادتنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬تكافلاً‭ ‬مع‭ ‬المختون،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مبلغاً‭ ‬يكفي‭ ‬وقتها‭ ‬لزيجة‭ ‬مسيارية‭ ‬أو‭ ‬عرفية،‭ ‬فقررت‭ ‬مصادرة‭ ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬ووضعها‭ ‬جانباً‭ ‬كي‭ ‬أستعين‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬تعليمية‭ ‬متقدمة‭.‬

وبدلاً‭ ‬من‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬حفل‭ ‬الختان‭ ‬توجهت‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬لاستذكار‭ ‬دروسي،‭ ‬ولكنني‭ ‬فوجئت‭ ‬وأنا‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬بزفة‭ ‬ختان‭ ‬‮«‬الشريفي‮»‬‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬الآلاف،‭ ‬وأثناء‭ ‬محاولتي‭ ‬الالتفاف‭ ‬حول‭ ‬الزفة‭ ‬صدمني‭ ‬حصان‭ ‬مسرع‭ ‬وألحق‭ ‬بي‭ ‬إصابات‭ ‬جسيمة،‭ ‬ربما‭ ‬يحس‭ ‬بآثارها‭ ‬ونتائجها‭ ‬قراء‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭. ‬وافتضح‭ ‬أمر‭ ‬تهريبي‭ ‬للقروش‭ ‬العشرة،‭ ‬وشاع‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬أنني‭ ‬كافر‭ ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬عاقبني‭ ‬على‭ ‬جريمتي‭ ‬البشعة،‭ ‬وارتفعت‭ ‬أسهم‭ ‬‮«‬الشريف‮»‬‭ ‬وانحطت‭ ‬أسهمي‭ ‬المنحطة‭ ‬سلفاً‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬سحيق،‭ ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تلتمس‭ ‬أمي‭ ‬رضا‭ ‬الأشراف‭ ‬فأتت‭ ‬بأحدهم‭ ‬ليعالجني‭ ‬من‭ ‬الوسواس‭ ‬الخناس‭ ‬الذي‭ ‬حملني‭ ‬على‭ ‬الاختلاس‭.‬

جاء‭ ‬الشريف‭ ‬المبروك‭ ‬إلى‭ ‬بيتنا‭ ‬وأنا‭ ‬أتألم‭ ‬من‭ ‬الكدمات،‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬الرجل‭ ‬بالهمهمة‭ ‬المعتادة‭ ‬وهو‭ ‬يمسك‭ ‬بكوب‭ ‬ماء‭ ‬ثم‭ ‬بصق‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬وأمرني‭ ‬بشربه،‭ ‬فرفضت‭ ‬فولولت‭ ‬أمي‭ ‬ثم‭ ‬انهالت‭ ‬عليّ‭ ‬ضرباً‭ ‬بشبشب‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬عاد‭ ‬وإرم‭ ‬ذات‭ ‬العماد،‭ ‬فوضعت‭ ‬الكوب‭ ‬المبروك‭ ‬على‭ ‬فمي‭ ‬وشفطت‭ ‬منه‭ ‬ولكن‭ ‬بلعومي‭ ‬رفض‭ ‬تمرير‭ ‬الماء‭ ‬فبصقته‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الرجل،‭ ‬‮«‬بضاعته‭ ‬ردت‭ ‬إليه‮»‬،‭ ‬فأغمي‭ ‬على‭ ‬أمي‭ ‬وأقام‭ ‬عليّ‭ ‬الحاضرون‭ ‬حد‭ ‬الردة‭ ‬المخفف‭ ‬وهو‭ ‬الضرب‭ ‬على‭ ‬الرأس‭ ‬والظهر،‭ ‬ومنذ‭ ‬يومها‭ ‬أفتت‭ ‬أمي‭ ‬بأنني‭ ‬شيوعي‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬استاء‭ ‬المتطرفون‭ ‬من‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين‭ ‬وأشاعوا‭ ‬أنني‭ ‬بعثي‭ ‬عفلقي،‭ ‬ونفياً‭ ‬لذلك‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬صحيفة‭ ‬انجليزية،‭ ‬ولكنهم‭ ‬قالوا‭ ‬إنني‭ ‬بعثي‭ ‬امريكي،‭ ‬وربما‭ ‬يفسر‭ ‬ذلك‭ ‬رفض‭ ‬الكويت‭ ‬منحي‭ ‬تعويضاً‭ ‬عن‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬التي‭ ‬تلفت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اختزنتها‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬الكيميائي‭ ‬المزدوج‭ ‬خلال‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية،‭ ‬التي‭ ‬أشعلتها‭ ‬الكويت‭ ‬برفضها‭ ‬الوحدة‭ ‬‮«‬الطوعية‮»‬‭ ‬مع‭ ‬عراق‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬الكويت‭ ‬بجيوشه‭ ‬ضيفا‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬إكرام‭ ‬الضيف‭ ‬ضربوه‭ ‬وطردوه،‭ ‬ثم‭ ‬فرضوا‭ ‬عليه‭ ‬غرامة‭ ‬بمليارات‭ ‬الدولارات‭.‬

منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬لتهديد‭ ‬صدام‭ ‬بضرب‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬بأسلحة‭ ‬جرثومية‭ ‬وكيميائية‭ ‬قمت‭ ‬بتغليف‭ ‬بيتي‭ ‬بأكياس‭ ‬الزبالة‭ ‬السوداء،‭ ‬واشتريت‭ ‬تونا‭ ‬وساردين‭ ‬وفاصوليا‭ ‬وحمصا‭ ‬ومربى‭ ‬وعسلا‭ ‬مغشوشا‭ ‬بالأطنان،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬الحرب‭ ‬وانتهت‭ ‬وكأنها‭ ‬لعبة‭ ‬بلاي‭ ‬ستيشن،‭ ‬وخرج‭ ‬جماعة‭ ‬صدام‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬وبقيت‭ ‬تلك‭ ‬المأكولات‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬حتى‭ ‬فاحت‭ ‬روائحها‭ ‬فتخلصت‭ ‬منها‭ ‬وانتظرت‭ ‬تعويضا‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يطاع‭ ‬لنوبي‭ ‬‮«‬رجاء‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا