زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لا للسياسة ونعم لغزة فقط
على غير عادتي خضت خلال اليومين الماضيين في شأن يقول الناس عنه إنه سياسي، وكان يتعلق بما يتعرض له أهل غزة الذين لهم في القلب مَعَزَّة من إبادة، ولكن كما أوضحت في ذينك المقالين فإن الأمر عندي لم يكن سياسيا بل أخلاقيا؛ أي انني اعتبر السكوت على الظلم عارا لا يليق بالإنسان السويّ بغض النظر عن دينه أو عرقه.
وقد تعرضت مرارا لعتاب القراء لأنني في تقديرهم لا أخوض في الأمور السياسية الملحّة، أي أن قراء عديدين طالبوا بأن تعرج زاويتي هذه على الشؤون السياسية بين الحين والآخر، ويطيب لي أن أعلن تجاهلي التام لهذا المطلب المجحف الذي لا أشك في أنه صدر عن أناس لا يكنون لي أي مودة: يا جماعة أنا عندي عيال مازالوا بحاجة إلي فلماذا تريدون مني أن أخوض في شؤون تؤدي إلى التهلكة أو الحرمان من دخول أي بلد عربي مدى الحياة؟
ولكن رغم أنني لا أكتب بطريقة ما يطلبه المستمعون، فإنني لا أمانع في تلبية ذلك المطلب إذا منحتني جهة ما بوليصة تأمين ضد الملاحقة والبهدلة ومعها مكافأة مقطوعة لا تقل عن 578 ألف جنيه إسترليني، وبعدها سأهاجر إلى أي بلد تموت من البرد حيتانها، وأكتب في السياسة العربية، واللي بدو يصير يصير، طالما لن تطول الأجهزة المعنية أبا الجعافير.
وثمة سبب آخر ظل يحملني على عدم الكتابة في السياسة، إلا وهو أنني عديم اللون السياسي؛ ففي صباي أفتت أمي بأنني شيوعي، بعد أن رفضت شرب ماء مخلوط ببصاق رجل كان يزعم أنه من أصحاب البركة والمعجزات. ففي يوم ختان صبي من «الأشراف» أعطتني أمي عشرة قروش كي أدفعها له كعادتنا في السودان تكافلاً مع المختون، وكان ذلك مبلغاً يكفي وقتها لزيجة مسيارية أو عرفية، فقررت مصادرة تلك الثروة ووضعها جانباً كي أستعين بها في مراحل تعليمية متقدمة.
وبدلاً من التوجه إلى حيث حفل الختان توجهت إلى المدرسة لاستذكار دروسي، ولكنني فوجئت وأنا أقترب من المدرسة بزفة ختان «الشريفي» يشارك فيها الآلاف، وأثناء محاولتي الالتفاف حول الزفة صدمني حصان مسرع وألحق بي إصابات جسيمة، ربما يحس بآثارها ونتائجها قراء هذه الزاوية. وافتضح أمر تهريبي للقروش العشرة، وشاع في بلدتنا أنني كافر وأن الله عاقبني على جريمتي البشعة، وارتفعت أسهم «الشريف» وانحطت أسهمي المنحطة سلفاً إلى قاع سحيق، فكان لا بد أن تلتمس أمي رضا الأشراف فأتت بأحدهم ليعالجني من الوسواس الخناس الذي حملني على الاختلاس.
جاء الشريف المبروك إلى بيتنا وأنا أتألم من الكدمات، ثم قام الرجل بالهمهمة المعتادة وهو يمسك بكوب ماء ثم بصق في الماء ثلاث مرات وأمرني بشربه، فرفضت فولولت أمي ثم انهالت عليّ ضرباً بشبشب من زمن عاد وإرم ذات العماد، فوضعت الكوب المبروك على فمي وشفطت منه ولكن بلعومي رفض تمرير الماء فبصقته في وجه الرجل، «بضاعته ردت إليه»، فأغمي على أمي وأقام عليّ الحاضرون حد الردة المخفف وهو الضرب على الرأس والظهر، ومنذ يومها أفتت أمي بأنني شيوعي.
وبعد أن بدأت الكتابة في الصحف العربية باللغة العربية استاء المتطرفون من أهلي النوبيين وأشاعوا أنني بعثي عفلقي، ونفياً لذلك انتقلت إلى صحيفة انجليزية، ولكنهم قالوا إنني بعثي امريكي، وربما يفسر ذلك رفض الكويت منحي تعويضاً عن المواد الغذائية التي تلفت بعد أن اختزنتها في بيتي خوفاً من الكيميائي المزدوج خلال حرب الخليج الثانية، التي أشعلتها الكويت برفضها الوحدة «الطوعية» مع عراق صدام حسين عندما جاء الكويت بجيوشه ضيفا وبدلا من إكرام الضيف ضربوه وطردوه، ثم فرضوا عليه غرامة بمليارات الدولارات.
منذ اليوم الأول لتهديد صدام بضرب دول الخليج بأسلحة جرثومية وكيميائية قمت بتغليف بيتي بأكياس الزبالة السوداء، واشتريت تونا وساردين وفاصوليا وحمصا ومربى وعسلا مغشوشا بالأطنان، ثم بدأت الحرب وانتهت وكأنها لعبة بلاي ستيشن، وخرج جماعة صدام من الكويت وبقيت تلك المأكولات في بيتي حتى فاحت روائحها فتخلصت منها وانتظرت تعويضا من الكويت أو العراق أو الأمم المتحدة، ولكن لا يطاع لنوبي «رجاء».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك