العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الاستعباط في مواقع العمل (2)

في‭ ‬جميع‭ ‬المجتمعات‭ ‬والدول‭ ‬يمارس‭ ‬الموظفون‭ ‬والعمال‭ ‬مختلف‭ ‬الحِيَل‭ ‬لتبرير‭ ‬عدم‭ ‬إنجاز‭ ‬المهام‭ ‬أو‭ ‬الزوغان‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬مؤيدي‭ ‬الاستهبال‭ ‬والاستعباط‭ ‬بجميع‭ ‬الأشكال،‭ ‬فإنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬يكون‭ ‬متفشيا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬‮«‬إدارة‮»‬‭ ‬متغطرسة‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬الموظفين‭ ‬بـ«المظاهر‮»‬‭ ‬وتتحين‭ ‬الفرص‭ ‬لمحاسبتهم‭ ‬ومعاقبتهم،‭ ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬فإن‭ ‬الموظف‭ ‬‮«‬البكّاش‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الذي‭ ‬ينافق‭ ‬رؤساءه‭ ‬بمعسول‭ ‬الكلام‭ ‬يفوز‭ ‬بالترقيات‭ ‬والكاش‭.‬

عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬الاتحاد‭ ‬للصحافة‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬عنها‭ ‬جريدة‭ ‬الاتحاد‭ ‬العربية‭ ‬وإمارات‭ ‬نيوز‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ومجلة‭ ‬زهرة‭ ‬الخليج‭ ‬النسائية،‭ ‬ومجلة‭ ‬الأطفال‭ ‬‮«‬ماجد‮»‬،‭ ‬أتانا‭ ‬لحين‭ ‬قصير‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬مدير‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يتفنن‭ ‬في‭ ‬عكننة‭ ‬الناس‭ ‬بالأوامر‭ ‬والنواهي‭ ‬والزجر‭ ‬والخصم‭ ‬من‭ ‬الرواتب‭ ‬والطرد‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬وقرر‭ ‬صاحبنا‭ ‬استخدام‭ ‬ساعة‭ ‬إلكترونية‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬صحفي‭ ‬وموظف‭ ‬بطاقة‭ ‬خاصة‭ ‬به‭ ‬عند‭ ‬الدخول‭ ‬والخروج،‭ ‬لمعرفة‭ ‬عدد‭ ‬ساعات‭ ‬عمل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا،‭ ‬بمعيار‭ ‬متى‭ ‬دخل‭ ‬الصحفي‭ ‬مبنى‭ ‬المؤسسة‭ ‬ومتى‭ ‬خرج،‭ ‬مع‭ ‬ان‭ ‬طبيعة‭ ‬عمل‭ ‬معظم‭ ‬الصحفيين‭ ‬تتطلب‭ ‬قضاء‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬المبنى‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬الأخبار‭ ‬أو‭ ‬لإجراء‭ ‬تحقيق‭ ‬أو‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬ما،‭ ‬واضطرت‭ ‬الإدارة‭ ‬إلى‭ ‬استبدال‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬الأول،‭ ‬لأن‭ ‬بعض‭ ‬الخبثاء‭ ‬كانوا‭ ‬يحشونها‭ ‬بالرمل‭ ‬فتصاب‭ ‬بخلل‭ ‬في‭ ‬قواها‭ ‬العقلية‭ ‬يجعل‭ ‬السابعة‭ ‬صباحاً،‭ ‬العاشرة‭ ‬ليلاً،‭ ‬وكما‭ ‬ذكرت‭ ‬آنفا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬تسجيل‭ ‬الحضور‭ ‬والانصراف‭ ‬مستهجناً‭ ‬لأن‭ ‬طبيعة‭ ‬العمل‭ ‬الصحفي‭ ‬تستوجب‭ ‬الدخول‭ ‬والخروج‭ ‬المتكرر‭ ‬إلى‭ ‬ومن‭ ‬مبنى‭ ‬الصحيفة،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يقضي‭ ‬صحفي‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬خارج‭ ‬المبنى‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬صحفية‭ ‬ويدخل‭ ‬مبنى‭ ‬الجريدة‭ ‬ويغادره‭ ‬خلال‭ ‬ساعة‭ ‬واحدة‭ ‬بعد‭ ‬تسليم‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬قضى‭ ‬الساعات‭ ‬العشر‭ ‬في‭ ‬جمعها‭.‬

واضطرت‭ ‬الإدارة‭ ‬إلى‭ ‬تعيين‭ ‬ثلاثة‭ ‬حراس‭ ‬أمنيين‭ ‬لمنع‭ ‬العبث‭ ‬بتلك‭ ‬الساعة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاث‭ ‬مناوبات‭ (‬شفتات‭)! ‬تخيل‭ ‬يا‭ ‬مؤمن‭: ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬رواتب‭ ‬سنويا‭ ‬لثلاثة‭ ‬حراس‭ ‬كي‭ ‬تعمل‭ ‬ساعة‭ ‬الضبط‭ ‬والمراقبة،‭ ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬الساعة‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬إنتاجية‭ ‬الصحفيين،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬فقط،‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬معظمنا‭ ‬يسجل‭ ‬موعد‭ ‬حضوره‭ ‬صباحاً‭ ‬ثم‭ ‬يغادر‭ ‬المبنى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسجل‭ ‬وقت‭ ‬المغادرة‭ ‬وعند‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬الصحيفة‭ ‬عصراً‭ ‬أو‭ ‬مساء‭ ‬يسجل‭ ‬ساعة‭ ‬الانصراف،‭ ‬وهكذا‭ ‬صار‭ ‬عدد‭ ‬ساعات‭ ‬عمل‭ ‬الكثيرين‭ ‬منا‭ ‬نحو‭ ‬11‭ ‬ساعة‭ ‬يومياً‭ (‬حسب‭ ‬بطاقات‭ ‬التسجيل‭)‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬ساعات‭ ‬العمل‭ ‬الفعلية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتجاوز‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬4‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬اليوم‭.‬

وقد‭ ‬أكدت‭ ‬دراسات‭ ‬أجراها‭ ‬مختصون‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الإدارة‭ (‬هي‭ ‬فن‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬علماً‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬إداريين‭ ‬موهوبين‭ ‬لم‭ ‬يدرسوا‭ ‬الإدارة‭ ‬كعلم‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬ينجحون‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬فيرتفع‭ ‬الأداء‭ ‬ومعه‭ ‬الإنتاجية‭)..  ‬المهم‭ ‬أكدت‭ ‬تلك‭ ‬الدراسات‭ ‬أن‭ ‬المظهر‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬ولهذا‭ ‬تجد‭ ‬موظفين‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الأناقة‭ ‬ويستخدمون‭ ‬عطوراً‭ ‬فواحة‭ ‬ويحملون‭ ‬حقائب‭ ‬لامعة،‭ ‬ولكن‭ ‬أداءهم‭ ‬دون‭ ‬الصفر،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬ينالون‭ ‬الترقيات‭ ‬والعلاوات‭ ‬الاستثنائية،‭ ‬بينما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬موظف‭ ‬مجتهد‭ ‬ومخلص‭ ‬ولا‭ ‬وقت‭ ‬له‭ ‬للتأنق‭ ‬فيكون‭ ‬نصيبه‭ ‬الإهمال‭ ‬والتجاهل‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬مبهدل‮»‬‭.‬

وهناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬البهدلة‭ ‬ضروري‭ ‬للاستهبال‭ ‬الوظيفي‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬مكتبك‭ ‬تورا‭ ‬بورا،‭ ‬أي‭ ‬تضع‭ ‬أكواماً‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬والملفات‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬وحتى‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بما‭ ‬يوحي‭ ‬بأنك‭ ‬‮«‬غرقان‮»‬‭ ‬في‭ ‬الشغل،‭ ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬رؤسائك‭ ‬سيدخل‭ ‬عليك‭ ‬طلباً‭ ‬لمستند‭ ‬معين‭ ‬فادفن‭ ‬ذلك‭ ‬المستند‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬التلال‭ ‬الورقية‭..  ‬وبمجرد‭ ‬دخول‭ ‬صاحبنا،‭ ‬قم‭ ‬بعملية‭ ‬التنقيب‭ ‬وأخرج‭ ‬المستند‭ ‬بسرعة‭ ‬حتى‭ ‬يأخذ‭ ‬الانطباع‭ ‬بأن‭ ‬ذهنك‭ ‬مرتب‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬مكتبك‭ ‬مبهدل‭.‬

واعترف‭ ‬بأن‭ ‬مكتبي‭ ‬أينما‭ ‬عملت‭ ‬يكون‭ ‬نموذجا‭ ‬للبهدلة،‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يحتفظ‭ ‬بالقصاصات‭ ‬والمستندات،‭ ‬ولا‭ ‬أتخلص‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬صلاحيتها‭ ‬بسنوات،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬الاتصالات‭ ‬القطرية‭ ‬أعطوني‭ ‬سكرتيرة،‭ ‬وفي‭ ‬يومها‭ ‬الأول‭ ‬دخلت‭ ‬مكتبي‭ ‬ووجدته‭ ‬مرتبا‭ ‬وكأنما‭ ‬لم‭ ‬يستخدمه‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الناس‭ ‬لو‭ ‬لمست‭ ‬شيئا‭ ‬على‭ ‬طاولتي‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭ ‬فابحثي‭ ‬لنفسك‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا