دخل العصر الرقمي حقبة جديدة من التحول أثرت على العديد من جوانب حياتنا وأعمالنا. وباعتباري أحد المنغمسين في عالم الحوكمة والمخاطر والالتزام، فقد شهدت عمليًا كيف ساهم هذا التحول الرقمي بشكل هائل في ديناميكيات الحوكمة والمخاطر والالتزام. ففي ظل التطور التكنولوجي الهائل، ظهرت بعض الجوانب الجديدة التي يجب التعامل معها في هذا الشأن.
وفي هذا المقال، سوف نلقي الضوء على بعض من آثار هذه التطورات التكنولوجية المتسارعة، وكيف يمكن للشركات في المنطقة الاستعداد لمواجهة هذا الوضع المتنامي.
التحول الرقمي المتسارع والحاجة إلى ممارسات حوكمة راسخة
شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معدلا غير مسبوق في تبني الحلول الرقمية في العقد الماضي. وسواء كان ذلك يتمثل في انتشار الخدمات المصرفية الرقمية في البحرين والإمارات أو الاستخدام المتزايد لمنصات التجارة الإلكترونية في السعودية، فإن شركات المنطقة ترتكز على استراتيجيات الرقمية أولاً. وهنا تبرز الحاجة إلى أطر عمل رقمية راسخة للحوكمة. ولا يتعين أن يقتصر دور هذه الأطر على تلبية احتياجات العمليات الرقمية الحالية فقط، بل يجب أن تتميز بالقدرة على التطور بدرجة تكفي لاستيعاب ابتكارات المستقبل أيضًا.
زيادة التهديدات السيبرانية
والإدارة الوقائية للمخاطر
بالرغم من المزايا العديدة للتقدم التكنولوجي الذي يشهده عالمنا، فإنها تحمل في طياتها أيضًا تهديدات سيبرانية. فالعصر الرقمي، للأسف، قد أصبح عصر المخاطر السيبرانية. وأصبحت المؤسسات والشركات في منطقة الشرق الأوسط هدفًا للجرائم السيبرانية بسبب كثرة الموارد والابتكارات الرقمية الجديدة. ولم تعد استراتيجيات إدارة المخاطر التفاعلية كافية لمواجهة هذا الوضع، حيث برزت الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات وقائية، وعمليات تدقيق منتظمة، وتحديث تقييمات المخاطر السيبرانية لتحديد مواطن الاختراق المحتملة وتصحيحها قبل أن يتم استغلالها.
الالتزام الأخلاقي في إدارة البيانات
يعتبر العصر الرقمي مرادفا لتضاعف البيانات. فقد أصبح بإمكان الشركات الوصول إلى كميات هائلة من البيانات سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو بيانات العملاء على منصات التجارة الإلكترونية، أو البيانات المالية في الخدمات المصرفية المفتوحة. وأصبحت طرق تناول وتخزين وتحليل هذه البيانات واحدة من أكبر تحديات الالتزام التي نواجهها اليوم. ويبدو ذلك جليًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وجه التحديد، وذلك على ضوء القواعد الثقافية والأعراف الاجتماعية المتميزة السائدة. لذا فإننا بحاجة إلى معايير للالتزام بشأن التعامل مع البيانات بحيث تكون مناسبة للاحتياجات الخاصة للمنطقة، وتحترم خصوصية المستخدم، وفي نفس الوقت تعزز الجانب الابداعي ولا تقيده.
وبالتالي، يمكن القول إن بحث هذا الأمر بشكل جيد وتحديد أطر العمل ذات الصلة التي تضمن أعلى مستويات أمن البيانات يساعدان المؤسسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على التكيف، فضلا عن تعزيز مكانتها كمساهم في وضع معايير الحوكمة والمخاطر والالتزام في جميع أنحاء العالم.
الحاجة إلى التعليم المستمر وتطوير المهارات
بالرغم من أن التعليم المستمر كان يحظى دائمًا بقيمة عالية، فإنه بالتأكيد أصبح جزءًا مهمًا من أي نظام للحوكمة والمخاطر والالتزام. فمنذ سنوات قليلة ماضية، كان تركيز المتخصصين في مجال الحوكمة والمخاطر والالتزام على تفهم العمليات التجارية والقواعد التنظيمية التقليدية. واليوم، يجب عليهم استيعاب الذكاء الاصطناعي، وسلسلة الكتل (blockchain)، وتعليم الآلة (machine learning)، وغيرها من التكنولوجيا الناشئة التي أحدثت نقلة كاملة في الهيكل التنظيمي. ولم يعد التعليم المستمر مجرد خيار بل أصبح ضرورة ملحة. لذا يتحتم على المؤسسات والشركات مواصلة تحديث ممارسات الحوكمة والمخاطر والالتزام، بما يضمن تزويد الموظفين بالمهارات والمعرفة اللازمة للتعرف أكثر على المنظومة الرقمية المتسارعة الخطى.
دور الذكاء الاصطناعي في الحوكمة والمخاطر والالتزام
يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا متناميًا في تعزيز وظائف الحوكمة والمخاطر والالتزام. ويمكنه أن يساعد المتخصصين في هذا المجال على أتمتة مهام الالتزام الصعبة، بما يضمن تطبيق قواعد الحوكمة بشكل مستمر، وتحليل مجموعات البيانات الواسعة بسرعة لتحديد المخاطر المحتملة. وفي ظل القواعد الرياضية لتعليم الآلة، يمكن لأنظمة الحوكمة والمخاطر والالتزام التنبؤ بالانتهاكات المحتملة أو المخالفات قبل أن تحدث، وهو ما يعني تعزيز قدرة الشركات على تطبيق إجراءات وقائية بدلا من تفاعلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معالجة اللغة الطبيعية (NLP) يمكن أن يساعد على التحليل اللغوي للنصوص التنظيمية، وبالتالي يصبح من السهل على المؤسسات الفهم والالتزام بالأحكام التنظيمية المتنامية. ولكن بالرغم من المزايا الكبيرة للذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بتعزيز الكفاءة وإيجاد طرق جديدة لمعالجة البيانات، فإنه يعتبر مجالا جديدًا ويجب التعامل معه بحذر وعناية، حيث إن الاعتماد عليه بكثافة بدون تفهم حدوده أو تحيزاته يمكن أن يقود إلى مخاطر غير متوقعة. يجب على المتخصصين في الحوكمة والمخاطر والالتزام التأكد من الاستخدام الأخلاقي واتباع مبادئ الشفافية عند دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي لأنها قد تأتي مصحوبة بتحديات الثقة والامتثال الخاصة بها.
استوعب التغيير ولكن اقترب منه بحذر
إن العصر الرقمي بكل تحدياته وفرصه المتاحة قد جاء ليبقى ويستمر. وبالنسبة للمتخصصين في الحوكمة والمخاطر والالتزام، فإنه يعتبر زمن الحماس والفزع في نفس الوقت. وبينما توفر التطورات التكنولوجية المتسارعة أدوات تساعد على تعزيز إمكانياتنا، فإنها أيضًا تحمل المزيد من التعقيدات التي يجب البحث فيها بدقة وحذر. إن المؤسسات القادرة على استيعاب هذه الآثار والتي تتبع إجراءات وقائية سوف تنجح في مواكبة هذه التطورات، بل ستشهد ازدهارًا أيضًا في العصر الرقمي. إنها رحلة تستلزم التكيف المستمر، وبالعقلية الصحيحة، فإنها رحلة قد تقودنا إلى نجاح لا يضاهى.
مدير عام الحوكمة والمخاطر والامتثال في أحد مشاريع صندوق الاستثمارات العامة، عضو مجلس إدارة «بيبان»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك