في 2 أبريل 2015، وقعت الولايات المتحدة، إلى جانب 5 دول كبرى، هي روسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا، اتفاقا حول برنامج إيران النووي، عُرف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة»، تعهدت فيه الدول الموقعة برفع العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، في مقابل التزام الأخيرة بألا تتجاوز نسبة تخصيبها لليورانيوم 3.67%.
بعد نحو 3 سنوات، وتحديداً في 8 أيار/مايو 2018، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من هذا الاتفاق، ما أثار عاصفة من الانتقادات شارك فيها السكرتير العام للأمم المتحدة، ثم جاء جو بايدن وتعهد إبان حملته في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 بعودة الولايات المتحدة للالتزام مجدداً بهذا الاتفاق إذا أصبح رئيساً.
اليوم، وبعد مرور ما يقارب 3 سنوات على دخوله البيت الأبيض، ها هو بايدن يستعد لبدء حملة انتخابية جديدة يطمع للفوز فيها بولاية رئاسية ثانية، لكن من دون أن يتمكن من تنفيذ ما وعد به.
صحيح إنه دخل مع إيران في مفاوضات غير مباشرة شهدت محطات كثيرة تراوحت بين الشد والجذب، وتخلّلتها موجات من التشاؤم، وصلت أحياناً إلى حد الإيحاء بوصولها إلى طريق مسدود، وموجات أخرى من التفاؤل، وصلت أحياناً إلى حد الإيحاء بأن اتفاقاً جديداً بات وشيكاً وفي متناول اليد، غير أنَّ هذا الصخب الذي استمر لشهور طويلة لم يسفر في النهاية عن أي شيء ملموس حتى الآن.
ولأنه ليس بوسع أي مراقب، مهما كانت قدرته على التحري والتدقيق، أن يحدد حقيقة ما يجري بالضبط، فقد بات من الصعب التكهن بمصير اتفاق 2015، وخصوصاً أن أياً من الأطراف المعنية لم ينسحب من مفاوضات فيينا حتى الآن أو يعلن رسمياً فشلها. لذا، فالأرجح أن نكون إزاء واحد من 3 احتمالات:
الأوَّل: أن يكون بايدن قد اقتنع أخيراً باستحالة عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بهذا الاتفاق بالشروط الإيرانية، ومن ثم قرر التخلي نهائياً عن مسار فيينا والعودة إلى مواصلة المسار نفسه الذي انتهجه ترامب.
الثاني: أن تكون المفاوضات غير المباشرة الجارية بين الطرفين الأمريكي والإيراني قد دخلت مرحلة حساسة تستدعي التكتم، ما يعني أن احتمال إعلان التوصل إلى اتفاق بينهما قبل انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة ما زال قائماً ولا يجوز استبعاده كلياً.
والثالث: أن تكون هذه المفاوضات قد وصلت بالفعل إلى نقطة حسم تستدعي التريث والانتظار إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، كي لا يتحول البرنامج النووي الإيراني إلى ورقة للمزايدة في حملة انتخابات رئاسية أمريكية يصعب التكهن بنتائجها، ما قد ينعكس سلباً على مجمل التفاهمات التي تم التوصل إليها حتى الآن.
وأياً كان الأمر، بوسع أي متابع مدقق في التقارير الإعلامية التي نشرت تباعاً، وخصوصاً في أعقاب إعلان الانسحاب الأمريكي من اتفاق 2015، وما تبع ذلك من فرض عقوبات أمريكية قصوى على إيران، أن يلاحظ أن السياسات الإيرانية المتبعة في مرحلة ما بعد الانسحاب اتسمت بقدر كبير من الصلابة على الصعيد الاستراتيجي، وبقدر لا بأس به من المرونة على الصعيد التكتيكي.
بمجرد دخول الانسحاب حيز التنفيذ، أبدى المرشد الإيراني علي خامئني استعداد إيران لمواصلة الالتزام بكل ما يخصها في الاتفاق، شرط أن تَفي الدول الأوروبية بالتزاماتها في الوقت نفسه، ما يعني أن على الدول الأوروبية المحافظة على علاقاتها التجارية والمالية بإيران والاستمرار في شراء النفط منها.
وعندما تبين أن هذه الدول الأوروبية غير قادرة على إلزام شركاتها ومصارفها بالتعاون مع إيران خوفاً من العقوبات الأمريكية، أعلن الرئيس السابق حسن روحاني أن إيران لم تعد ملزمة بدورها بالوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ومن ثم قررت أن توقف على الفور مبيعات اليورانيوم المخصب الزائد والماء الثقيل، وأعلنت في الوقت نفسه أنها ستقوم باستئناف تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز النسبة المتفق عليها، وهي 3.67%، ما شكل أداة ضغط هائلة على كل الأطراف المعنية.
وعندما أرادت إدارة ترامب اختبار مدى صلابة الموقف الإيراني وراحت تتحرش بإيران عسكرياً، باختراق مجالها الجوي بواسطة طائرات تجسس تحلق على ارتفاعات شاهقة، لم تتردد إيران في إسقاط إحدى هذه الطائرات في 20 حزيران/يونيو 2019، وهي من طراز «غلوبال هوك» الباهظة التكلفة، من دون أن تجرؤ إدارة ترامب على الرد.
على صعيد آخر، يلاحظ أن إيران لم تتعجل أبداً التوصل إلى اتفاق مع إدارة بايدن، وخصوصاً بعدما حاولت الأخيرة توسيع نطاق التفاوض ليشمل برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وهو ما رفضته رفضاً قاطعاً، وأصرّت على العودة إلى اتفاق 2015 كما هو من دون أي تعديل، إلا في الحدود التي تفرضها ضرورات أو اعتبارات فنية بحتة.
ولأنها كانت قد تمكّنت من التعايش مع العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها فترة طويلة، فقد استطاعت إيران تحييد معظم الآثار السلبية لهذه العقوبات، الأمر الذي مكنها من خوض مفاوضات فيينا ارتكازاً على موقف يتسم بالندية التامة مع الولايات المتحدة.
أشارت تقارير صحفية غربية إلى أن تعثر مفاوضات فيينا يعود إلى أسباب متعددة، منها إصرار إيران على رفع حرس الثورة من قائمة الإرهاب، وإصرار «إسرائيل» على تخريب هذه المفاوضات، اعتقاداً منها بأن فشلها يؤدي إلى موافقة الولايات المتحدة على اعتماد الحل العسكري كبديل، غير أن السبب الأهم لهذا الفشل يعود على الأرجح إلى عدم ثقة إيران بأي إدارة أمريكية مقبلة واحتمال انسحابها مرة أخرى من أي اتفاق جديد، الأمر الذي يدفعها إلى طلب ضمانات يراها البعض تعجيزية لتجنب وقوع هذا الاحتمال.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن موقف روسيا من شروط العودة الأمريكية إلى الاتفاق تغير بعد انخراطها في الحرب على أوكرانيا، وأصبح أقلّ حماسة لهذه العودة، لتبيَّن لنا بوضوح أن كفة إيران في مفاوضات فيينا أصبحت هي الراجحة، غير أن ذلك كله لا ينفي حقيقة أن لكل من الولايات المتحدة وإيران مصلحة مؤكدة في العودة إلى الاتفاق.
مصلحة إيران واضحة، لأن الاتفاق سيؤدي تلقائياً إلى رفع العقوبات المفروضة عليها، وبالتالي حصولها على أموالها المجمدة التي يقدرها البعض بأنها وصلت حالياً إلى ما يقارب 100 مليار دولار، ومصلحة الولايات المتحدة واضحة، لأن عدم التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى اقتراب إيران أكثر من «العتبة النووية»، وهو ما تسعى لتجنبه، وخصوصاً أن الوكالة الدولية للطاقة النووية أشارت في أحد تقاريرها الأخيرة إلى أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بلغ 23 ضعف الحد المسموح به في اتفاق 2015، وأن معدلات تراكم هذا المخزون تتزايد باطراد، إذ ارتفعت بنسبة تزيد على 25% منذ شباط/فبراير الماضي، ما يثير قلقاً كبيراً، ليس لدى الولايات المتحدة فحسب، إنما لدى كل من «إسرائيل» وبعض دول الخليج العربية في الوقت نفسه أيضاً.
ربما يكون من المفيد هنا إعادة التذكير بحقيقة مهمة، مفادها أن معظم الأزمات المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط تبدو متداخلة ومترابطة عضوياً، وأن إيران تمارس فيها دوراً متزايد التأثير، وخصوصاً في الأزمات المشتعلة في فلسطين وفي سوريا ولبنان واليمن والعراق.
ولأن مصير هذه الأزمات جميعاً يبدو بدوره مرتبطاً بالمسار الذي ستسلكه العلاقات الأمريكية الإيرانية، فقد بات واضحاً تماماً أن مصير الاستقرار في المنطقة يتوقف في النهاية على احتمالات التوصل إلى اتفاق يسمح للولايات المتحدة بالعودة إلى الالتزام بالاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي، وهو موضوع ما زال يلفه الكثير من الغموض في المرحلة الحالية، كما سبقت الإشارة.
صحيح أن الولايات المتحدة تسعى حالياً للتخفيف من حدة الصراعات المحتدمة في المنطقة، كي تتفرغ لمواجهة التحدي الأكبر الناجم عن الحرب المشتعلة في الساحة الأوكرانية، لكنها لا تبدو مستعدة في الوقت نفسه لمعالجة جذور هذه الصراعات، وخصوصاً الصراع المحتدم في الساحة الفلسطينية.
ولأن الحكومة القائمة حالياً في «إسرائيل»، والتي تقودها تيارات وتوجهات شديدة التطرف والعنصرية، تصر على توسيع المستوطنات تمهيداً لضم أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية، كما تصر في الوقت نفسه على اعتماد الخيار العسكري كبديل وحيد للتعامل مع إيران، يتوقع أن يظل مصير المنطقة كلها متأرجحاً بين احتمالات تهدئة تسعى إليها الولايات المتحدة من ناحية، واحتمالات تصعيد تقود إليها السياسات الإسرائيلية من ناحية أخرى.
ولأنه يتوقع أن تسير الأمور على هذا المنوال حتى انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة في نهاية 2024، يمكن القول إن التوصل إلى اتفاق بين إيران والولايات المتحدة حول برنامج إيران النووي هو البديل الوحيد الذي يمكن أن يساعد على قطع الطريق أمام احتمال وقوع انفجارات كبيرة في المنطقة خلال المرحلة المقبلة.
وهو احتمال لا ينبغي استبعاده في المطلق، وخصوصاً أن الولايات المتحدة وإيران تمكّنتا من التوصل مؤخراً إلى اتفاق سمح بتبادل السجناء بين البلدين في مقابل الإفراج عن بعض الأرصدة الإيرانية المحتجزة في كوريا الجنوبية، كما تردّد مؤخراً أن إيران قامت في الآونة الأخيرة بإبطاء معدلات تخصيب اليورانيوم ووقفه عند حدود 60%، وهو ما لم تؤكده مصادر إخبارية مستقلة.
أظن أن المنطقة مقبلة على تغيرات كبيرة قبل انتهاء فصل الشتاء المقبل، وخصوصاً أن الحرب المشتعلة في الساحة الأوكرانية لا يمكن أن تستمر على وتيرتها الحالية إلى الأبد.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك