لدول الخليج العربي موقف ثابت ومبدئي بشأن عدم الانتشار النووي في منطقة الشرق الأوسط تمثل في التصريحات الرسمية والمواقف داخل أروقة المنظمات الدولية وخاصة المعنية بتلك القضية، وذلك ليس فقط بالنظر إلى مخاطر تلك الأسلحة والتي تترك آثارا تمتد سنوات على الإنسان والبيئة وهو ما أكدته عديد من الحوادث النووية التي شهدها العالم، ولكن أيضاً بالنظر إلى تأثير امتلاك بعض الأطراف لتلك الأسلحة على توازن القوى الإقليمي بل إن حوادث التسرب الإشعاعي من تلك المفاعلات تظل خطراً داهماً سواء بسبب عيوب في تصميم المفاعلات أو تعرض أحد تلك المفاعلات لهجوم صاروخي ومن ثم حدوث تسرب إشعاعي غير مسبوق وهو ما يتطلب التعامل مع كوارث نوعية.
ولتلك الاعتبارات طالبت دول الخليج العربي –ولاتزال– بالاطلاع على المفاوضات النووية الجارية بشأن البرامج النووية الإيرانية وذلك للتأكد من سلمية تلك البرامج وعدم تحولها إلى الأغراض العسكرية. إلا أنه بالنظر إلى تسارع وتيرة اهتمام الدول بالطاقة النووية للأغراض السلمية – وهو حق تكفله الوكالة الدولية للطاقة الذرية – حيث إنه يجب أن تكون تلك البرامج تحت إشرافها فإن بعض دول الخليج العربي كغيرها من الدول بدأت بالفعل بالاهتمام بتلك البرامج وقد تمثلت التوجهات الخليجية الجماعية في البيان الختامي لقمة مجلس التعاون عام 2006 والذي تضمن «الدعوة إلى إيجاد برنامج في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية طبقاً للمعايير والأنظمة الدولية»، وربما لم يكن لدى كل دول الخليج اهتمام بتلك القضية لكونها ليست بالأمر البسيط سواء من حيث التكلفة الباهظة وبدء الإنتاج بعد سنوات تتراوح ما بين 12-18 عاماً ، بالإضافة إلى تصميم المفاعلات النووية والبنى التحتية وتحقيق عناصر الأمان النووي كما حددتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولكن في تصوري أن امتلاك بعض دول الخليج العربي للبرامج النووية السلمية بالإضافة إلى كونه يعد ممارسة حقها في تطوير تلك البرامج التي تعد مؤشراً مهماً على تطور قدرات الدول بوجه عام وفي المجال النووي السلمي على نحو خاص، فإن لتلك الطاقة مزايا كونها الأقل إضراراً بالبيئة في ظل توجه دول العالم لاتخاذ إجراءات ملموسة لمواجهة آثار التغير المناخي.
ومع أهمية ذلك التوجه فإن متطلبات الأمان النووي تظل ركيزة مهمة وتتمثل باختصار في نوعية التكنولوجيا المستخدمة وربما يرتبط ذلك الأمر على نحو وثيق بالشراكات الاستراتيجية لدول الخليج العربي ومدى استعداد تلك الدول الشريكة لدعم جهود دول الخليج العربي بتلك التكنولوجيا، بالإضافة إلى إجراءات السلامة النووية خلال عملية بناء تلك المفاعلات، ووضع الخطط اللازمة لكيفية إخلاء السكان القاطنين للمناطق القريبة من تلك المفاعلات حال حدوث حوادث نووية، بالإضافة إلى إجراءات الحماية ضد سرقة المواد النووية ويعيد ذلك إلى الأذهان إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مارس 2023 سرقة حوالي 2,5 طن في 10 براميل من اليورانيوم الخام من بعض من المواقع في ليبيا، وعلى الرغم من عثور السلطات الأمنية على كميات اليورانيوم فإنه حادث يجب أن يوضع بالاعتبار في ظل سعي الجماعات دون الدول إلى سرقة تلك المواد النووية.
وبغض النظر عن توقيت إعلان بعض دول الخليج البدء في تطوير برامج نووية سلمية وأهمية هذا التوجه ولكونه أيضاً حقا مكفولا لها وفقاً لما يقضي به ميثاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية فإن هناك متطلبات ثلاثة مهمة لذلك التوجه الاستراتيجي أولها: الكوادر البشرية، فإدارة البرامج النووية السلمية ليست بالأمر اليسير ربما تكون هناك حاجة إلى الاستعانة بالخبرات الأجنبية في البداية ولكن لابد من تطوير قدرات بشرية محلية من خلال تخصيص برامج المنح والابتعاث لدراسة ذلك المجال، وثانيها: التغلب على مشكلة التمويل، حيث تتمثل المعضلة الأساسية في الاستثمار في البرامج النووية في كونها تتطلب استثمارات ضخمة ولا تدر عائداً على المدى المنظور حيث تحتاج سنوات قبل أن يتم الإنتاج الفعلي، وثالثها: ما أشرت إليه سابقاً بشأن متطلبات الأمان النووي وهو ما يتطلب ليس فقط تحقيق تلك المتطلبات بل التدريب على التعامل مع أي حالات طارئة.
وإذا كانت تلك هي المبررات والقدرات، فماذا عن الآثار الاستراتيجية بعيدة المدى لتلك البرامج؟ صحيح أن هناك جدلا يثار دائماً حول جدوى تلك البرامج ومدى القدرة على تنفيذها لكونها ارتبطت دائماً بدول كبرى ولكن في تقديري أن الآثار الاستراتيجية للبرامج النووية السلمية تتمثل في خمسة أمور أولها: إنها تأكيد لمضامين الشراكات الدولية لدول الخليج العربي لكون توافر تلك التكنولوجيا بشكل حصري لدى عدد محدود من الدول ومدى استعدادها لتقديم تلك التكنولوجيا، وثانيها: إن الطاقة النووية السلمية بما لها من أهمية في المجالات كافة فإنها مؤشر من مؤشرات قوة الدول، وثالثها: دور الطاقة النووية في تحلية المياه وإنتاج الكهرباء في ظل تنفيذ دول الخليج العربي خططا طموحة للتنمية المستدامة وفي الوقت ذاته تجنب إحداث تلوث للبيئة، ورابعها: إن إعلان بعض دول الخليج منذ البداية انتهاج الشفافية بشأن تنفيذ تلك البرامج يعد مرتكزاً مهماً لحث كل الأطراف الإقليمية على الالتزام بالقواعد ذاتها لكون الحوادث النووية تتجاوز حدود الدول وتظل خطراً ماثلاً، ففي كلمته أمام اجتماع الدورة الـ67 للمؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي انعقد في العاصمة النمساوية فيينا في 25 سبتمبر 2023 أكد وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان على «حق السعودية الأصيل في الاستفادة من التقنية النووية السلمية بما يتوافق مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة» و«التزام المملكة بسياستها الوطنية للطاقة النووية، التي تضمن أعلى معايير الشفافية والموثوقية وتطبيق أعلى مستويات الأمان بالتعاون الوثيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وخامسها: إنه في ظل التحولات العالمية والإقليمية الراهنة فإن توظيف كل القدرات بما فيها النووية السلمية يعد ضرورة استراتيجية للحفاظ على الأمن الوطني للدول.
وفي تقديري إن هناك ضرورة للاهتمام الخليجي الجماعي بتلك القضية سواء من خلال تأكيد حق دول الخليج العربي في تطوير تلك الطاقة خلال المشاركات في المنظمات الدولية، بالإضافة إلى استمرار الموقف الخليجي الجماعي من خلال مجلس التعاون بتأكيد ذلك الحق، فضلاً عن إيلاء الإجراءات الاحترازية بشأن أي حوادث نووية أهمية خاصة من خلال أنشطة مركز إدارة حالات الطوارئ التابع لمجلس التعاون ومقره دولة الكويت.
ومجمل القول إن الخيار النووي السلمي لدول الخليج العربي يعد ترجمة لقدرات دول الخليج التي تشهد تطوراً كبيراً سواء بشأن نوعية التعليم اللازم لتلك التكنولوجيا أو على صعيد تنويع الشراكات الدولية، فضلاً عن كونه ضرورة استراتيجية وإن تأخر الأمر قليلاً.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك