في مدينة صلالة بسلطنة عُمان، وأثناء ملتقى مدربي العرب، في شهر أغسطس 2023، وفي فترة الاستراحة، كنا مجموعة من المدربين العرب نتناول الغداء، وكنا خليطا من الرجال والنساء ومن دول عربية مختلفة، وكان الحديث يتجاذب من هنا وهناك، ولا أعرف كيف أوصلنا الحديث إلى إحدى المدربات من دولة شقيقة التي لم تمسك زمام الحديث فقط وإنما جعلتنا كلنا آذانا صاغية وقلوبا واعية كما يقال؛ وكانت تلك الأخت المدربة تتحدث عن تجربتها الشخصية التي عاشتها ما بين الحياة والموت، وفي اللحظة التي اعتقد فيه الأطباء أنها غادرت الحياة، إذ بها تنتصر وتعود إلى الحياة بإرادة الله سبحانه وتعالى الذي ألهمها قوة الإرادة والصبر والرغبة في الانتصار. تقول الأخت المدربة:
في ذات يوم وفي حوالي سنة 2000 شعرت بوخزة في صدري، وكعادتنا أهملت الموضوع، لأن الوخزة لم تستمر إلا بضع ثوان، ولكن مع مرور الأيام أستمر الوخز فترة أطول، لذلك فكرت أن أذهب واستشير الطبيب، وبعد فحوصات عديدة وأيام طويلة من الصبر والمعاناة، اكتشف الطبيب أني أعاني من ورم خبيث في صدري.
صدمة، لم أستطع الوقوف، تحجرت الدموع في عينّي، لا أعرف ماذا أقول، ولمن أقول، وكيف أقول. وكانت كلمات الطبيب وكأنها شريط تسجيل صدأ، كلماته صعبة الفهم، لا تدخل العقل بسهولة لأنها كلمات صدئة تراكمت عليها أطنان من الغبار. سألت نفسي: هل يمازحني الدكتور؟ ترى متى يبتسم ويقول لي: «لا بأس عليك.. إنك لا تعانين من شيء.. أنت معافاة.. يمكنك الذهاب الآن.. عيشِ حياتك».
كنت أحاول أن أرى تلك الابتسامة المازحة بين ثنايا وجهه إلا أنه لم يبتسم، فقد كانت ملامحه هادئة، وربما صارمة، كل الذي فعله أنه أفرد صور الأشعة أمامي وبدأ يشرح لي الأمور التي من المفروض أن أعرفها وكيف أتعامل مع المرض، ولكني في الحقيقة كنت في عالم آخر، عالم اختلط فيه الحلم بالحقيقة، والواقع بالخيال، والمستقبل الرمادي، كل حياتي تطايرت كالدخان أمام ناظري، لا حياة ولا مستقبل ولا شيء، كل شيء انتهى.
خرجت من المستشفى وما زال لدي أمل أن يعاود الدكتور محادثتي ويقول إن الموضوع كله مزحة، لتتبدد كل مخاوفي وأوهامي، ويعود مستقبلي الذي كان في ذهني كما كان في مكانه.
إلا أن الأمور التي تتعلق بالأورام الخبيثة لا يُمزح فيها، إنها حقيقة موجودة في جسمي، تنهش من أعصابي وعضلاتي، وربما عقلي ووجداني.
مرت عدة أيام وأنا أشعر أنني في حلم، ربما أستيقظ منه في لحظة، وينتهي كل ذلك، إلا أنه لم يكن حلمًا، وإنما حقيقة، صرخت في داخلي من شدة الألم، حاولت أن أتلفت يمنة ويسرة للبحث عن بصيص من الأمل ولو كان صغيرًا إلا أنني لم أجد، فما كان مني إلا أن أتقبل وضعي في النهاية، عندها بدأت رحلة العلاج الطويلة بالمواد الكيميائية وكل ما يرتبط بالأورام من علاج، تساقط شعري، وكنت أعاني من عديد الأوجاع أثناء العلاج والآلام، جسمي كله كان يعاني، ولكن الحمد لله كنت متماسكة بقوة من الإرادة التي منحنيها الله سبحانه وتعالى، فكنت دائمًا أقول في نفسي إني سوف أنتصر على هذا الداء على الرغم أني أشعر أنه ينهش في جسمي من الداخل.
ذات يوم وقفتُ أمام المرآة وكنت أحدث نفسي وأحدث السرطان الموجود في جسمي، أتذكر أني قلت: أيها السرطان، تعال نتصالح مع بعض، أعرف أنك ما دخلت جسمي إلا لأنك تحبني، لذلك أنا أحبك، تعال نتعاون مع بعضنا البعض لننتصر ليس عليك فأنت جزء مني الآن، ولتعلم أني أخذ الدواء لأنه مطلوب مني أن أخذ هذا الدواء وليس للقضاء عليك، تعال لنتعايش معًا.
وهكذا بين فترة وأخرى أقف أمام المرآة وأتحدث، حتى بدأ العلاج الكيميائي يأتي مفعوله وكذلك بالإرادة وبفضل من الله سبحانه وتعالى استطعت أن أنتصر بطريقة أو بأخرى.
وخلال تلك الفترة، حملت بطفلي، وكان هذا شعاع الأمل الذي ينتصر، وولدتُ في عام 2003، فكانت فرحتي لا تُوصف، ابني الجميل، وسعادتي التي من أجلها يجب أن أنتصر أكثر وأكثر.
ولكن لله سبحانه وتعالى أمر آخر،
فذات مساء وكان في حضني أرضعه، خر الولد ميتًا من غير أسباب، لم أصدق ما الذي يجري، هرعت وزوجي إلى المستشفى، إلا أن إرادة الله سبحانه كانت أسبق. قال الأطباء إن الوفاة حدثت لأسباب طبيعية.
انهارت قواي، ثم لا أعرف ماذا حدث، تحول كل الذي حولي إلى السواد، واستمر هذا الوضع لا أعرف كم من الزمن، فالوقت لم يعد له قيمة في المكان الذي كنتُ فيه.
قيل لي بعد ذلك.. إني فقدت الوعي، لا ليس غياب الوعي وإنما أصبت بجلطة أدت إلى غيبوبة عدة أيام، ثم توقف النبض حوالي 15 دقيقة و35 ثانية، وهذا يعني أني مت، فلا أمل في الحياة بعد هذا الزمن.
قام الطبيب المكلف بي باستخراج شهادة الوفاة، ليكتب زمن الوفاة، إلا أنه وأثناء الكتابة لمحت عيناه حركة أصابعي فوجدها تتحرك – كما قال لي بعد ذلك – فبسرعة شديدة رمى الأوراق نادى فريق الطوارئ لإنعاش القلب وإعادة الأكسجين إلى الرئتين، وكلها ثوان قليلة إذ امتلأت الغرفة بفريق الطوارئ، فعادت لي الحياة بإرادة من الله سبحانه وتعالى.
كل هذا حدث وأنا في غيبوبة ولا أعرف ما الذي يحدث حولي.
بعد بضعت أيام فتحت عينّي، وأنا لا أعرف أين أنا، ولكني بسرعة أدركت أنني في المستشفى، ولكن لا أعرف لماذا، فضغطت على الجرس لأنادي الممرضة لأسألها عن الأوضاع والأحداث التي جرت، وعندما دخلت الممرضة الغرفة، وجدت على محياها ابتسامة عريضة، وتهنئني على نجاتي وما إلى ذلك، فحاولت أن أسألها عن وضعي ولماذا أنا هنا، وما الذي يجري إلا أني لم أسمع صوتي، فحاولت أن أتكلم إلا أني لم أتمكن فصوتي قد اختفى، فلم أستطع التحدث وأنا لا أعرف لماذا؟
قامت إدارة المستشفى بإبلاغ زوجي وأهلي، فجاءوا سراعًا وهم في أشد حالات السعادة، فكنت أسمعهم إلا أني لا أستطيع التحدث معهم، حاولت أن أكلم زوجي وأطفالي إلا أني فشلت، عندها كانت رغبة البكاء شديدة في داخلي، إلا أني لا أريد البكاء أمام أهلي وأطفالي، فكنتُ أريد أن أشعرهم أني قوية، ولكن داخلي يرتعش من المعاناة الجديدة التي أمر فيها.
وقال لي زوجي كل الذي حدث، ولماذا أنا في المستشفى، فأيقنت بإرادة الله سبحانه وتعالى وبكل ما جرى.
وخلال أيام كنت أتعامل مع الممرضة بالورقة والقلم، كنت أكتب لها كل الذي أرغب وأريد، وهي تتحدث معي. وقال لي الطبيب إن الجلطة التي حدثت أدت إلى إتلاف منطقة النطق في الدماغ، ولكن كل الأمور بيد الله، وأنا مؤمنة بالله سبحانه فهو الذي أخرجني من داء السرطان، وهو الآن يمتحنني لأمر آخر وربما أهم.
جاءني الطبيب النفسي، فقال لي بعد عدة جلسات: إن كنتِ تريدين أن تتكلمي كما كنت، فالأمر بيدك، تستطيعين.
فكتبت له: كيف؟
الطبيب: ماذا تحبين من كتب أو مجلات؟
فكتبت: أريد القرآن الكريم، وبعض المجلات، مثل: ثم ذكرتها في ورقتي.
وبعد ساعات أحضروا لي طلبي، فبدأت بالقراءة، إلا أن الطبيب قال لي: أقرئي بصوت عال.
فكتبت: كيف؟
قال: أخرجي صوتك حتى ولو بصرخة صغيرة جدًا.
وبالفعل، بدأت أقرأ بصوت عال، ولكن في الأيام الأولى لم يكن لدي صوت، ولكن بعد بضعة أيام بدأت صرخاتي المكبوتة تخرج على استحياء، ولكني شعرت أني انتصرت، وأني بدأت أسمع صوتي، فناديت الممرضة وأنا في قمة سعادتي، فأسمعتها صوتي، فضحكت وشجعتني، ثم بدأ الأمر يتحسن مع الأمام، فبدأت الصرخات العشوائية تتحول إلى حروف، ومن ثم إلى كلمات.
فتقاعدت من العمل، فشعرت بفراغ، إلا أن صديقتي شجعتني أن أنخرط في بعض الدورات العامة، من أجل الخروج من الفراغ الذي أنا فيه، فسجلت في دورة تدريبية، ومن دورة إلى أخرى، حتى دخلت دورة إعداد مدربين، ولكني لم أستطيع أن أقدم اختبار تقديم الورقة النهائية، لأني خفت أن يتم السخرية مني لأن النطق لدي ما زال ضعيفا.
ولكني حاولت مرات ومرات، ومرات عدة، وأياما وشهورا، فلا تعتقدون أن الموضوع بهذه السهولة، فقد مرت عليّ أوقات كنت أفقد فيها إيماني بنفسي ومشاعري، صرخات الألم ولحظات الضعف عشتها بكل حذافيرها، كنتُ أجد كل هذا في وجوه أولادي، وكانت تلك الوجوه هي التي تشجعني حينًا ولكنها في أحيان أخرى كانت ذريعة لفقدان الأمل، أيام عديدة لم أحسب ولا أريد أن أتذكرها، حتى أني كنت أخفي دموعي بين يديّ وعلى مخدتي فقط حتى لا يراني أحد، فلم يكن يعلم بها إلا الله الذي كان هو سلوايّ، ولكن بفضل من الله سبحانه تمكنت في النهاية من النطق الصحيح والوقوف أمام الجمهور للتحدث، وكانت تلك الخطوات تستهلك من جهدي ووقتي وأعصابي، إلا أن كل هذا لا يهم، وإنما كنتُ من داخلي أشعر بإرادة الله سبحانه وتعالى الذي يعطيني الحافز للتغلب على كل تلك العوائق، وها أنا اليوم معك مدربة أتيت من بلادي للوقوف أمامكم للتحدث وإعطاء الحافز للجميع أنه من الممكن التغلب على جميع العوائق بإرادة الله سبحانه ومن ثم الرغبة والإرادة والحافز.
وأنا اليوم أنقل لكم تجربة هذه السيدة بعد الاستئذان منها في نشر قصتها، وهي بالفعل حكاية ملهمة، ليس للنساء فقط وإنما هي للجميع، سواء كنا مرضى أو أصحاء فكلنا نريد من يحفزنا ويعطينا الأمل للانتصار وقطف ثمار الجهد حتى وإن طال الأمد.
تحية لتلك السيدة التي آمنت بنفسها، وكل من وقف معها، وكل الذي يرغبون في الحياة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك