العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

إرادة امرأة.. وشجاعة مواجهة المحن والشدائد

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٠١ أكتوبر ٢٠٢٣ - 02:00

في‭ ‬مدينة‭ ‬صلالة‭ ‬بسلطنة‭ ‬عُمان،‭ ‬وأثناء‭ ‬ملتقى‭ ‬مدربي‭ ‬العرب،‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬2023،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬الاستراحة،‭ ‬كنا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المدربين‭ ‬العرب‭ ‬نتناول‭ ‬الغداء،‭ ‬وكنا‭ ‬خليطا‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬ومن‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وكان‭ ‬الحديث‭ ‬يتجاذب‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أوصلنا‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬المدربات‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬شقيقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تمسك‭ ‬زمام‭ ‬الحديث‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬جعلتنا‭ ‬كلنا‭ ‬آذانا‭ ‬صاغية‭ ‬وقلوبا‭ ‬واعية‭ ‬كما‭ ‬يقال؛‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الأخت‭ ‬المدربة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجربتها‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وفي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اعتقد‭ ‬فيه‭ ‬الأطباء‭ ‬أنها‭ ‬غادرت‭ ‬الحياة،‭ ‬إذ‭ ‬بها‭ ‬تنتصر‭ ‬وتعود‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بإرادة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الذي‭ ‬ألهمها‭ ‬قوة‭ ‬الإرادة‭ ‬والصبر‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الانتصار‭. ‬تقول‭ ‬الأخت‭ ‬المدربة‭:‬

في‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وفي‭ ‬حوالي‭ ‬سنة‭ ‬2000‭ ‬شعرت‭ ‬بوخزة‭ ‬في‭ ‬صدري،‭ ‬وكعادتنا‭ ‬أهملت‭ ‬الموضوع،‭ ‬لأن‭ ‬الوخزة‭ ‬لم‭ ‬تستمر‭ ‬إلا‭ ‬بضع‭ ‬ثوان،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام‭ ‬أستمر‭ ‬الوخز‭ ‬فترة‭ ‬أطول،‭ ‬لذلك‭ ‬فكرت‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬واستشير‭ ‬الطبيب،‭ ‬وبعد‭ ‬فحوصات‭ ‬عديدة‭ ‬وأيام‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الصبر‭ ‬والمعاناة،‭ ‬اكتشف‭ ‬الطبيب‭ ‬أني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬ورم‭ ‬خبيث‭ ‬في‭ ‬صدري‭.‬

صدمة،‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬الوقوف،‭ ‬تحجرت‭ ‬الدموع‭ ‬في‭ ‬عينّي،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬أقول،‭ ‬ولمن‭ ‬أقول،‭ ‬وكيف‭ ‬أقول‭. ‬وكانت‭ ‬كلمات‭ ‬الطبيب‭ ‬وكأنها‭ ‬شريط‭ ‬تسجيل‭ ‬صدأ،‭ ‬كلماته‭ ‬صعبة‭ ‬الفهم،‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬العقل‭ ‬بسهولة‭ ‬لأنها‭ ‬كلمات‭ ‬صدئة‭ ‬تراكمت‭ ‬عليها‭ ‬أطنان‭ ‬من‭ ‬الغبار‭. ‬سألت‭ ‬نفسي‭: ‬هل‭ ‬يمازحني‭ ‬الدكتور؟‭ ‬ترى‭ ‬متى‭ ‬يبتسم‭ ‬ويقول‭ ‬لي‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بأس‭ ‬عليك‭.. ‬إنك‭ ‬لا‭ ‬تعانين‭ ‬من‭ ‬شيء‭.. ‬أنت‭ ‬معافاة‭.. ‬يمكنك‭ ‬الذهاب‭ ‬الآن‭.. ‬عيشِ‭ ‬حياتك‮»‬‭.‬

كنت‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬تلك‭ ‬الابتسامة‭ ‬المازحة‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬وجهه‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يبتسم،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬ملامحه‭ ‬هادئة،‭ ‬وربما‭ ‬صارمة،‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬فعله‭ ‬أنه‭ ‬أفرد‭ ‬صور‭ ‬الأشعة‭ ‬أمامي‭ ‬وبدأ‭ ‬يشرح‭ ‬لي‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬أعرفها‭ ‬وكيف‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬المرض،‭ ‬ولكني‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬عالم‭ ‬اختلط‭ ‬فيه‭ ‬الحلم‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬والواقع‭ ‬بالخيال،‭ ‬والمستقبل‭ ‬الرمادي،‭ ‬كل‭ ‬حياتي‭ ‬تطايرت‭ ‬كالدخان‭ ‬أمام‭ ‬ناظري،‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬ولا‭ ‬مستقبل‭ ‬ولا‭ ‬شيء،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬انتهى‭.‬

خرجت‭ ‬من‭ ‬المستشفى‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬لدي‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يعاود‭ ‬الدكتور‭ ‬محادثتي‭ ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬الموضوع‭ ‬كله‭ ‬مزحة،‭ ‬لتتبدد‭ ‬كل‭ ‬مخاوفي‭ ‬وأوهامي،‭ ‬ويعود‭ ‬مستقبلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مكانه‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالأورام‭ ‬الخبيثة‭ ‬لا‭ ‬يُمزح‭ ‬فيها،‭ ‬إنها‭ ‬حقيقة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬جسمي،‭ ‬تنهش‭ ‬من‭ ‬أعصابي‭ ‬وعضلاتي،‭ ‬وربما‭ ‬عقلي‭ ‬ووجداني‭.‬

مرت‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬وأنا‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬حلم،‭ ‬ربما‭ ‬أستيقظ‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬وينتهي‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حلمًا،‭ ‬وإنما‭ ‬حقيقة،‭ ‬صرخت‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الألم،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أتلفت‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬بصيص‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬صغيرًا‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أجد،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬مني‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أتقبل‭ ‬وضعي‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬عندها‭ ‬بدأت‭ ‬رحلة‭ ‬العلاج‭ ‬الطويلة‭ ‬بالمواد‭ ‬الكيميائية‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالأورام‭ ‬من‭ ‬علاج،‭ ‬تساقط‭ ‬شعري،‭ ‬وكنت‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬عديد‭ ‬الأوجاع‭ ‬أثناء‭ ‬العلاج‭ ‬والآلام،‭ ‬جسمي‭ ‬كله‭ ‬كان‭ ‬يعاني،‭ ‬ولكن‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬كنت‭ ‬متماسكة‭ ‬بقوة‭ ‬من‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬منحنيها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬فكنت‭ ‬دائمًا‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬إني‭ ‬سوف‭ ‬أنتصر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الداء‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬أني‭ ‬أشعر‭ ‬أنه‭ ‬ينهش‭ ‬في‭ ‬جسمي‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬وقفتُ‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬وكنت‭ ‬أحدث‭ ‬نفسي‭ ‬وأحدث‭ ‬السرطان‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬جسمي،‭ ‬أتذكر‭ ‬أني‭ ‬قلت‭: ‬أيها‭ ‬السرطان،‭ ‬تعال‭ ‬نتصالح‭ ‬مع‭ ‬بعض،‭ ‬أعرف‭ ‬أنك‭ ‬ما‭ ‬دخلت‭ ‬جسمي‭ ‬إلا‭ ‬لأنك‭ ‬تحبني،‭ ‬لذلك‭ ‬أنا‭ ‬أحبك،‭ ‬تعال‭ ‬نتعاون‭ ‬مع‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬لننتصر‭ ‬ليس‭ ‬عليك‭ ‬فأنت‭ ‬جزء‭ ‬مني‭ ‬الآن،‭ ‬ولتعلم‭ ‬أني‭ ‬أخذ‭ ‬الدواء‭ ‬لأنه‭ ‬مطلوب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أخذ‭ ‬هذا‭ ‬الدواء‭ ‬وليس‭ ‬للقضاء‭ ‬عليك،‭ ‬تعال‭ ‬لنتعايش‭ ‬معًا‭.‬

وهكذا‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬وأخرى‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬وأتحدث،‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬العلاج‭ ‬الكيميائي‭ ‬يأتي‭ ‬مفعوله‭ ‬وكذلك‭ ‬بالإرادة‭ ‬وبفضل‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أنتصر‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭.‬

وخلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬حملت‭ ‬بطفلي،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬شعاع‭ ‬الأمل‭ ‬الذي‭ ‬ينتصر،‭ ‬وولدتُ‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬فكانت‭ ‬فرحتي‭ ‬لا‭ ‬تُوصف،‭ ‬ابني‭ ‬الجميل،‭ ‬وسعادتي‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أنتصر‭ ‬أكثر‭ ‬وأكثر‭.‬

ولكن‭ ‬لله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬أمر‭ ‬آخر،

فذات‭ ‬مساء‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬حضني‭ ‬أرضعه،‭ ‬خر‭ ‬الولد‭ ‬ميتًا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أسباب،‭ ‬لم‭ ‬أصدق‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجري،‭ ‬هرعت‭ ‬وزوجي‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬إرادة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬كانت‭ ‬أسبق‭. ‬قال‭ ‬الأطباء‭ ‬إن‭ ‬الوفاة‭ ‬حدثت‭ ‬لأسباب‭ ‬طبيعية‭.‬

انهارت‭ ‬قواي،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬حدث،‭ ‬تحول‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬حولي‭ ‬إلى‭ ‬السواد،‭ ‬واستمر‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬فالوقت‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬فيه‭.‬

قيل‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.. ‬إني‭ ‬فقدت‭ ‬الوعي،‭ ‬لا‭ ‬ليس‭ ‬غياب‭ ‬الوعي‭ ‬وإنما‭ ‬أصبت‭ ‬بجلطة‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬غيبوبة‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬ثم‭ ‬توقف‭ ‬النبض‭ ‬حوالي‭ ‬15‭ ‬دقيقة‭ ‬و35‭ ‬ثانية،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أني‭ ‬مت،‭ ‬فلا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭.‬

قام‭ ‬الطبيب‭ ‬المكلف‭ ‬بي‭ ‬باستخراج‭ ‬شهادة‭ ‬الوفاة،‭ ‬ليكتب‭ ‬زمن‭ ‬الوفاة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬وأثناء‭ ‬الكتابة‭ ‬لمحت‭ ‬عيناه‭ ‬حركة‭ ‬أصابعي‭ ‬فوجدها‭ ‬تتحرك‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬‭ ‬فبسرعة‭ ‬شديدة‭ ‬رمى‭ ‬الأوراق‭ ‬نادى‭ ‬فريق‭ ‬الطوارئ‭ ‬لإنعاش‭ ‬القلب‭ ‬وإعادة‭ ‬الأكسجين‭ ‬إلى‭ ‬الرئتين،‭ ‬وكلها‭ ‬ثوان‭ ‬قليلة‭ ‬إذ‭ ‬امتلأت‭ ‬الغرفة‭ ‬بفريق‭ ‬الطوارئ،‭ ‬فعادت‭ ‬لي‭ ‬الحياة‭ ‬بإرادة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬حدث‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬حولي‭.‬

بعد‭ ‬بضعت‭ ‬أيام‭ ‬فتحت‭ ‬عينّي،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬أنا،‭ ‬ولكني‭ ‬بسرعة‭ ‬أدركت‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا،‭ ‬فضغطت‭ ‬على‭ ‬الجرس‭ ‬لأنادي‭ ‬الممرضة‭ ‬لأسألها‭ ‬عن‭ ‬الأوضاع‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬جرت،‭ ‬وعندما‭ ‬دخلت‭ ‬الممرضة‭ ‬الغرفة،‭ ‬وجدت‭ ‬على‭ ‬محياها‭ ‬ابتسامة‭ ‬عريضة،‭ ‬وتهنئني‭ ‬على‭ ‬نجاتي‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فحاولت‭ ‬أن‭ ‬أسألها‭ ‬عن‭ ‬وضعي‭ ‬ولماذا‭ ‬أنا‭ ‬هنا،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬صوتي،‭ ‬فحاولت‭ ‬أن‭ ‬أتكلم‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬فصوتي‭ ‬قد‭ ‬اختفى،‭ ‬فلم‭ ‬أستطع‭ ‬التحدث‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا؟

قامت‭ ‬إدارة‭ ‬المستشفى‭ ‬بإبلاغ‭ ‬زوجي‭ ‬وأهلي،‭ ‬فجاءوا‭ ‬سراعًا‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬حالات‭ ‬السعادة،‭ ‬فكنت‭ ‬أسمعهم‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التحدث‭ ‬معهم،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أكلم‭ ‬زوجي‭ ‬وأطفالي‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬فشلت،‭ ‬عندها‭ ‬كانت‭ ‬رغبة‭ ‬البكاء‭ ‬شديدة‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬البكاء‭ ‬أمام‭ ‬أهلي‭ ‬وأطفالي،‭ ‬فكنتُ‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أشعرهم‭ ‬أني‭ ‬قوية،‭ ‬ولكن‭ ‬داخلي‭ ‬يرتعش‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أمر‭ ‬فيها‭.‬

وقال‭ ‬لي‭ ‬زوجي‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬حدث،‭ ‬ولماذا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬فأيقنت‭ ‬بإرادة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬جرى‭.‬

وخلال‭ ‬أيام‭ ‬كنت‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬الممرضة‭ ‬بالورقة‭ ‬والقلم،‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬أرغب‭ ‬وأريد،‭ ‬وهي‭ ‬تتحدث‭ ‬معي‭. ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬الطبيب‭ ‬إن‭ ‬الجلطة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إتلاف‭ ‬منطقة‭ ‬النطق‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬بيد‭ ‬الله،‭ ‬وأنا‭ ‬مؤمنة‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬أخرجني‭ ‬من‭ ‬داء‭ ‬السرطان،‭ ‬وهو‭ ‬الآن‭ ‬يمتحنني‭ ‬لأمر‭ ‬آخر‭ ‬وربما‭ ‬أهم‭.‬

جاءني‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬جلسات‭: ‬إن‭ ‬كنتِ‭ ‬تريدين‭ ‬أن‭ ‬تتكلمي‭ ‬كما‭ ‬كنت،‭ ‬فالأمر‭ ‬بيدك،‭ ‬تستطيعين‭.‬

فكتبت‭ ‬له‭: ‬كيف؟

الطبيب‭: ‬ماذا‭ ‬تحبين‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬أو‭ ‬مجلات؟

فكتبت‭: ‬أريد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وبعض‭ ‬المجلات،‭ ‬مثل‭: ‬ثم‭ ‬ذكرتها‭ ‬في‭ ‬ورقتي‭.‬

وبعد‭ ‬ساعات‭ ‬أحضروا‭ ‬لي‭ ‬طلبي،‭ ‬فبدأت‭ ‬بالقراءة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطبيب‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬أقرئي‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭. ‬

فكتبت‭: ‬كيف؟

قال‭: ‬أخرجي‭ ‬صوتك‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬بصرخة‭ ‬صغيرة‭ ‬جدًا‭.‬

وبالفعل،‭ ‬بدأت‭ ‬أقرأ‭ ‬بصوت‭ ‬عال،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لدي‭ ‬صوت،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬بدأت‭ ‬صرخاتي‭ ‬المكبوتة‭ ‬تخرج‭ ‬على‭ ‬استحياء،‭ ‬ولكني‭ ‬شعرت‭ ‬أني‭ ‬انتصرت،‭ ‬وأني‭ ‬بدأت‭ ‬أسمع‭ ‬صوتي،‭ ‬فناديت‭ ‬الممرضة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬سعادتي،‭ ‬فأسمعتها‭ ‬صوتي،‭ ‬فضحكت‭ ‬وشجعتني،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬يتحسن‭ ‬مع‭ ‬الأمام،‭ ‬فبدأت‭ ‬الصرخات‭ ‬العشوائية‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬حروف،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭.‬

فتقاعدت‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬فشعرت‭ ‬بفراغ،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬صديقتي‭ ‬شجعتني‭ ‬أن‭ ‬أنخرط‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدورات‭ ‬العامة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الفراغ‭ ‬الذي‭ ‬أنا‭ ‬فيه،‭ ‬فسجلت‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬تدريبية،‭ ‬ومن‭ ‬دورة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬حتى‭ ‬دخلت‭ ‬دورة‭ ‬إعداد‭ ‬مدربين،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬اختبار‭ ‬تقديم‭ ‬الورقة‭ ‬النهائية،‭ ‬لأني‭ ‬خفت‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬السخرية‭ ‬مني‭ ‬لأن‭ ‬النطق‭ ‬لدي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬ضعيفا‭.‬

ولكني‭ ‬حاولت‭ ‬مرات‭ ‬ومرات،‭ ‬ومرات‭ ‬عدة،‭ ‬وأياما‭ ‬وشهورا،‭ ‬فلا‭ ‬تعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الموضوع‭ ‬بهذه‭ ‬السهولة،‭ ‬فقد‭ ‬مرت‭ ‬عليّ‭ ‬أوقات‭ ‬كنت‭ ‬أفقد‭ ‬فيها‭ ‬إيماني‭ ‬بنفسي‭ ‬ومشاعري،‭ ‬صرخات‭ ‬الألم‭ ‬ولحظات‭ ‬الضعف‭ ‬عشتها‭ ‬بكل‭ ‬حذافيرها،‭ ‬كنتُ‭ ‬أجد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬أولادي،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تشجعني‭ ‬حينًا‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬ذريعة‭ ‬لفقدان‭ ‬الأمل،‭ ‬أيام‭ ‬عديدة‭ ‬لم‭ ‬أحسب‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتذكرها،‭ ‬حتى‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أخفي‭ ‬دموعي‭ ‬بين‭ ‬يديّ‭ ‬وعلى‭ ‬مخدتي‭ ‬فقط‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يراني‭ ‬أحد،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬سلوايّ،‭ ‬ولكن‭ ‬بفضل‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬تمكنت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬من‭ ‬النطق‭ ‬الصحيح‭ ‬والوقوف‭ ‬أمام‭ ‬الجمهور‭ ‬للتحدث،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الخطوات‭ ‬تستهلك‭ ‬من‭ ‬جهدي‭ ‬ووقتي‭ ‬وأعصابي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يهم،‭ ‬وإنما‭ ‬كنتُ‭ ‬من‭ ‬داخلي‭ ‬أشعر‭ ‬بإرادة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الذي‭ ‬يعطيني‭ ‬الحافز‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬العوائق،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬اليوم‭ ‬معك‭ ‬مدربة‭ ‬أتيت‭ ‬من‭ ‬بلادي‭ ‬للوقوف‭ ‬أمامكم‭ ‬للتحدث‭ ‬وإعطاء‭ ‬الحافز‭ ‬للجميع‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬العوائق‭ ‬بإرادة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الرغبة‭ ‬والإرادة‭ ‬والحافز‭.‬

وأنا‭ ‬اليوم‭ ‬أنقل‭ ‬لكم‭ ‬تجربة‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬بعد‭ ‬الاستئذان‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬قصتها،‭ ‬وهي‭ ‬بالفعل‭ ‬حكاية‭ ‬ملهمة،‭ ‬ليس‭ ‬للنساء‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬للجميع،‭ ‬سواء‭ ‬كنا‭ ‬مرضى‭ ‬أو‭ ‬أصحاء‭ ‬فكلنا‭ ‬نريد‭ ‬من‭ ‬يحفزنا‭ ‬ويعطينا‭ ‬الأمل‭ ‬للانتصار‭ ‬وقطف‭ ‬ثمار‭ ‬الجهد‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬طال‭ ‬الأمد‭.‬

تحية‭ ‬لتلك‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬آمنت‭ ‬بنفسها،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬معها،‭ ‬وكل‭ ‬الذي‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا