زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ألا لا يجهلن أحد علينا... (2)
قلت في مقال الأمس ان انعدام الأمن الوظيفي جعلني في حال نطنطة من وظيفة الى أخرى ومن بلد خليجي الى آخر، لأن سيف التفنيش مرفوع دائما فوق الرؤوس في تحدّ سافر لقوانين العمل، ثم ذكرت جانبا من المقابلة التي أجراها معي فريق من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في يوليو من عام 1994 في فندق في المنامة بعد أن اجتزت الامتحان التحريري، للبتّ في أمر استيعابي كصحفي في تلفزيون بي بي سي العربي، وكانت لجنة المعاينة (الإنترفيو) تتألف من ثلاثة بريطانيين شكلا وموضوعا وعربي متبرطن (أي نال الجنسية البريطانية بالتجنس)، وكان هذا المتبرطن يحاول إحراجي بأسئلة سخيفة وركيكة، وتعمدت أن تكون إجاباتي عن أسئلته في منتهى السخف والاستخفاف به.
وفي اللحظة التي شرع فيها الخواجات الثلاثة في اللجنة في مناقشة شروط الخدمة معي في إشارة إلى أن الاختيار قد وقع عليّ، سألني العربي عن عمري، فطرحت من عمري عشر سنوات، وقلت بالأمس إنني لم أقصد الغش أو الكذب لأن عمري الحقيقي كان موجوداً في المستندات التي أرفقتها بطلب التقدم للوظيفة، بل قصدت أن ألمح لصاحبنا السخيف ذاك أنني لا أكترث لأسئلته، ولكن المصيبة هي أن الكذبة صارت «جداً»، فقد فوجئت عند استلام عقد العمل ومستندات التوظيف الأخرى أن الالتحاق بال بي بي سي ردّني إلى الشباب بعد أن رجعت إلى الوراء عشر سنوات. يا ما أنت كريم يا رب، هأنذا أعود الى الشباب من دون الحاجة الى «كريم» أو دهان أو بودرة ومن دون ان أكون قد قمت بتزوير شهادة ميلاد؛ يعني الجماعة سجلوا في أوراق الإنترفيو عمري المزور، وأصبح أبو الجعافر شاباً في لندن، وألف من تتمناه، ويقال إن الليدي ديانا كانت قد «حطت» عينها علي ولما اكتشفت أنني لم «أعبّرها» مالت إلى عماد «دودي» الفايد نكاية بي، وكان ما كان من نهايتهما المحزنة، عندما لقيا مصرعهما في نفق في باريس.
ولا يعني ذلك أنني ضحكت على الخواجات، أو أنهم يفتقرون إلى الدقة في العمل.. بالعكس، كل ما هناك هو أن الخواجات يختارونك لهذه الوظيفة أو تلك ليس لأنك تحمل شهادة كذا وكذا، أو لأن عمرك كذا وكذا، بل لأنك قادر على تصريف المهام التي ستوكل إليك.. وهكذا كلما ذهبت إلى إدارة الشؤون المالية والإدارية في بي بي سي لأمر ما عاملوني على أساس عمري المزور.
وكما قال غوبلز مسؤول الدعاية في ألمانيا الهتلرية النازية: اكذب واكذب حتى تصدق نفسك.. بعبارة أخرى صرت أصدق أنني فعلاً أكثر شباباً مما تفيد شهادة ميلادي، وأعترف بأن هذا الشعور يلازمني إلى يومنا هذا. أعني أنني أحس بأنني «فعلاً» أصغر بعشر سنوات من جعفر عباس سيد أحمد الذي تزعم ورقة صفراء أنه عجوز ومكعكع، والأغرب من ذلك أنني جربت أن أقول للناس عمري ناقصاً خمس أو عشر سنوات فيأتيني التعليق: ما يبين عليك! يعني أبدو أصغر من عمري المزور الذي يقلّ عن عمري الحقيقي ببضع سنوات.
في الغرب عموماً هناك قوانين تعتبر التمييز على أساس العمر (يسمونه ageism) جنحة تستوجب المساءلة القانونية، وعندنا تجد إعلان وظائف يقول على عينك يا تاجر «لا يزيد عمر المتقدم للوظيفة على 30 أو 35 أو 40 سنة»، وفي الغرب لا تستطيع أن تعلن -مثلاً- أن وظيفة ما للرجال فقط (يسمونه sexism)، وعندنا تجد إعلانا «سكرتيرة ذات مظهر حسن!!!» وفي السودان صدر قبل سنوات قرار قراقوشي بإحالة جميع أساتذة الجامعة الذين بلغوا الستين إلى المعاش. وكان القرار سياسيا ويهدف إلى التخلص من جيل كامل من الأساتذة بحسبان أن معظمهم لا يؤيدون الحكومة السابقة، ثم تعالت الاحتجاجات فقالوا: بلاش.. خلوها 65 سنة.. أساتذة الجامعات والمهنيون عموماً يزدادون خبرة وتألقاً كلما تقدمت بهم السنون ولكن ما جدوى الآذان في مالطة؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك