العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ألا لا يجهلن أحد علينا... (2)

قلت‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬الأمس‭ ‬ان‭ ‬انعدام‭ ‬الأمن‭ ‬الوظيفي‭ ‬جعلني‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬نطنطة‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬الى‭ ‬أخرى‭ ‬ومن‭ ‬بلد‭ ‬خليجي‭ ‬الى‭ ‬آخر،‭ ‬لأن‭ ‬سيف‭ ‬التفنيش‭ ‬مرفوع‭ ‬دائما‭ ‬فوق‭ ‬الرؤوس‭ ‬في‭ ‬تحدّ‭ ‬سافر‭ ‬لقوانين‭ ‬العمل،‭ ‬ثم‭ ‬ذكرت‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬المقابلة‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬معي‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية‭ (‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭) ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1994‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬في‭ ‬المنامة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اجتزت‭ ‬الامتحان‭ ‬التحريري،‭ ‬للبتّ‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬استيعابي‭ ‬كصحفي‭ ‬في‭ ‬تلفزيون‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬العربي،‭ ‬وكانت‭ ‬لجنة‭ ‬المعاينة‭ (‬الإنترفيو‭) ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬بريطانيين‭ ‬شكلا‭ ‬وموضوعا‭ ‬وعربي‭ ‬متبرطن‭ (‬أي‭ ‬نال‭ ‬الجنسية‭ ‬البريطانية‭ ‬بالتجنس‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬المتبرطن‭ ‬يحاول‭ ‬إحراجي‭ ‬بأسئلة‭ ‬سخيفة‭ ‬وركيكة،‭ ‬وتعمدت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إجاباتي‭ ‬عن‭ ‬أسئلته‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬السخف‭ ‬والاستخفاف‭ ‬به‭.‬

وفي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬شرع‭ ‬فيها‭ ‬الخواجات‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬شروط‭ ‬الخدمة‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الاختيار‭ ‬قد‭ ‬وقع‭ ‬عليّ،‭ ‬سألني‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬عمري،‭ ‬فطرحت‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬وقلت‭ ‬بالأمس‭ ‬إنني‭ ‬لم‭ ‬أقصد‭ ‬الغش‭ ‬أو‭ ‬الكذب‭ ‬لأن‭ ‬عمري‭ ‬الحقيقي‭ ‬كان‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬المستندات‭ ‬التي‭ ‬أرفقتها‭ ‬بطلب‭ ‬التقدم‭ ‬للوظيفة،‭ ‬بل‭ ‬قصدت‭ ‬أن‭ ‬ألمح‭ ‬لصاحبنا‭ ‬السخيف‭ ‬ذاك‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أكترث‭ ‬لأسئلته،‭ ‬ولكن‭ ‬المصيبة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الكذبة‭ ‬صارت‭ ‬‮«‬جداً‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬فوجئت‭ ‬عند‭ ‬استلام‭ ‬عقد‭ ‬العمل‭ ‬ومستندات‭ ‬التوظيف‭ ‬الأخرى‭ ‬أن‭ ‬الالتحاق‭ ‬بال‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬ردّني‭ ‬إلى‭ ‬الشباب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭. ‬يا‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬كريم‭ ‬يا‭ ‬رب،‭ ‬هأنذا‭ ‬أعود‭ ‬الى‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬‮«‬كريم‮»‬‭ ‬أو‭ ‬دهان‭ ‬أو‭ ‬بودرة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬قمت‭ ‬بتزوير‭ ‬شهادة‭ ‬ميلاد؛‭ ‬يعني‭ ‬الجماعة‭ ‬سجلوا‭ ‬في‭ ‬أوراق‭ ‬الإنترفيو‭ ‬عمري‭ ‬المزور،‭ ‬وأصبح‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬شاباً‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وألف‭ ‬من‭ ‬تتمناه،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬الليدي‭ ‬ديانا‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬‮«‬حطت‮»‬‭ ‬عينها‭ ‬علي‭ ‬ولما‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬‮«‬أعبّرها‮»‬‭ ‬مالت‭ ‬إلى‭ ‬عماد‭ ‬‮«‬دودي‮»‬‭ ‬الفايد‭ ‬نكاية‭ ‬بي،‭ ‬وكان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نهايتهما‭ ‬المحزنة،‭ ‬عندما‭ ‬لقيا‭ ‬مصرعهما‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬في‭ ‬باريس‭.‬

ولا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬ضحكت‭ ‬على‭ ‬الخواجات،‭ ‬أو‭ ‬أنهم‭ ‬يفتقرون‭ ‬إلى‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬العمل‭.. ‬بالعكس،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الخواجات‭ ‬يختارونك‭ ‬لهذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬ليس‭ ‬لأنك‭ ‬تحمل‭ ‬شهادة‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬عمرك‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬بل‭ ‬لأنك‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تصريف‭ ‬المهام‭ ‬التي‭ ‬ستوكل‭ ‬إليك‭.. ‬وهكذا‭ ‬كلما‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬إدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬المالية‭ ‬والإدارية‭ ‬في‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬لأمر‭ ‬ما‭ ‬عاملوني‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عمري‭ ‬المزور‭.‬

وكما‭ ‬قال‭ ‬غوبلز‭ ‬مسؤول‭ ‬الدعاية‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬الهتلرية‭ ‬النازية‭: ‬اكذب‭ ‬واكذب‭ ‬حتى‭ ‬تصدق‭ ‬نفسك‭.. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬صرت‭ ‬أصدق‭ ‬أنني‭ ‬فعلاً‭ ‬أكثر‭ ‬شباباً‭ ‬مما‭ ‬تفيد‭ ‬شهادة‭ ‬ميلادي،‭ ‬وأعترف‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬يلازمني‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬أعني‭ ‬أنني‭ ‬أحس‭ ‬بأنني‭ ‬‮«‬فعلاً‮»‬‭ ‬أصغر‭ ‬بعشر‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬سيد‭ ‬أحمد‭ ‬الذي‭ ‬تزعم‭ ‬ورقة‭ ‬صفراء‭ ‬أنه‭ ‬عجوز‭ ‬ومكعكع،‭ ‬والأغرب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬جربت‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬للناس‭ ‬عمري‭ ‬ناقصاً‭ ‬خمس‭ ‬أو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬فيأتيني‭ ‬التعليق‭: ‬ما‭ ‬يبين‭ ‬عليك‭! ‬يعني‭ ‬أبدو‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬المزور‭ ‬الذي‭ ‬يقلّ‭ ‬عن‭ ‬عمري‭ ‬الحقيقي‭ ‬ببضع‭ ‬سنوات‭.‬

في‭ ‬الغرب‭ ‬عموماً‭ ‬هناك‭ ‬قوانين‭ ‬تعتبر‭ ‬التمييز‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬العمر‭ (‬يسمونه ageism‭) ‬جنحة‭ ‬تستوجب‭ ‬المساءلة‭ ‬القانونية،‭ ‬وعندنا‭ ‬تجد‭ ‬إعلان‭ ‬وظائف‭ ‬يقول‭ ‬على‭ ‬عينك‭ ‬يا‭ ‬تاجر‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عمر‭ ‬المتقدم‭ ‬للوظيفة‭ ‬على‭ ‬30‭ ‬أو‭ ‬35‭ ‬أو‭ ‬40‭ ‬سنة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الغرب‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ -‬مثلاً‭- ‬أن‭ ‬وظيفة‭ ‬ما‭ ‬للرجال‭ ‬فقط‭ (‬يسمونه‭ ‬sexism‭)‬،‭ ‬وعندنا‭ ‬تجد‭ ‬إعلانا‭ ‬‮«‬سكرتيرة‭ ‬ذات‭ ‬مظهر‭ ‬حسن‭!!!‬‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬السودان‭ ‬صدر‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬قرار‭ ‬قراقوشي‭ ‬بإحالة‭ ‬جميع‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعة‭ ‬الذين‭ ‬بلغوا‭ ‬الستين‭ ‬إلى‭ ‬المعاش‭. ‬وكان‭ ‬القرار‭ ‬سياسيا‭ ‬ويهدف‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬بحسبان‭ ‬أن‭ ‬معظمهم‭ ‬لا‭ ‬يؤيدون‭ ‬الحكومة‭ ‬السابقة،‭ ‬ثم‭ ‬تعالت‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬فقالوا‭: ‬بلاش‭.. ‬خلوها‭ ‬65‭ ‬سنة‭.. ‬أساتذة‭ ‬الجامعات‭ ‬والمهنيون‭ ‬عموماً‭ ‬يزدادون‭ ‬خبرة‭ ‬وتألقاً‭ ‬كلما‭ ‬تقدمت‭ ‬بهم‭ ‬السنون‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬الآذان‭ ‬في‭ ‬مالطة؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا