شياطين الإنس والجن الذين يعملون تحت مظلة شركات إنتاج التبغ متعددة الجنسيات يفكرون ويشتغلون ليلا نهارا، فلا يسأمون، ولا يُصيبهم الإحباط، ولا تفْتُر عزيمتهم في إبداع أفكارٍ جديدة، ومنتجات مبتكرة حديثة وجذابة لزيادة أرباح شركاتهم، ورفع مستوى ازدهارهم ورقيهم الاقتصادي.
فكلما أَغلقت الحكومات والجهات الصحية القومية والدولية أمامهم بابا واحدا، وضيَّقت على رقابهم الخناق، اجتهدوا بسرعة وكفاءة عالية لفتح أبوابٍ كثيرة مختلفة وواسعة يسهل الولوج فيها. وكلما قام المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمة الصحة العالمية بتدشين معاهدة دولية لكبح جماح تدخين السجائر على كل المستويات، عملوا من خلال أجهزتهم القوية المتنفذة والمتشابكة التي لا تنام على تخفيف وطأة هذه المعاهدات، من خلال تمييع صياغتها، وجعلها مرنة وفضفاضة تحتمل بنودها تفسيرات متعددة، وتفتح لهم مخرجاً جديداً يعملون من خلاله.
وكلما فشلوا في تسويق المبررات التي يقدمونها للعالم لأي منتج جديد يُدْخلونه في الأسواق، ابتدعوا مبررات علمية وفنية واجتماعية تغري الناس، وبخاصة فئات الشباب والأطفال على استخدام آخر منتج، وتعاطيه وشرائه.
وكلما خسرت معركة قضائية رُفعت ضدها في إحدى المحاكم في الدول، استعدت لخوض غمار معركة جديدة بجدية أكثر، وحزم شديد، وأمل في الفوز، فهي لن تخسر الحرب التي تواجهها أبداً منذ نحو قرن من الزمن، وإنما تخسر معارك صغيرة هنا أو هناك من دون أن تُضرب ضربة قاضية تقضي عليها كلياً.
فبعد أن أجمع الأطباء في الخمسينيات من القرن المنصرم على أن تدخين سجائر التبغ التقليدية والشيشة وغيرهما يسقط المدخن ومن حوله في شر مرض سرطان الرئة وأمراض أخرى كثيرة مستعصية على العلاج، قامت مصانع التبغ والسجائر في تلك الفترة الزمنية بعرض وتسويق منتج «مُعدل»، ونسخة جديدة من سجائر التبغ المعروفة، وهي «السجائر الخفيفة» (Light Cigarettes)، أي التي يدَّعون ويُضللون بها الناس بأنها أقل ضرراً لأنها تحتوي على مستويات أقل من القطران، وهي المادة اللزجة السوداء التي تبقى بعد التدخين، والنيكوتين، والسموم، والملوثات الأخرى التي يستنشقها المدخن، فتدخل في الرئتين، ثم تنتقل إلى الدورة الدموية وتتسرب في كل خلية من خلايا جسم الإنسان.
وفي الوقت نفسه شرعوا في نوعٍ جديد من السجائر التقليدية لجذب وكسب جماهير جديدة تفضل طعم ومذاق ونكهة السجائر، وتحسن وتزكي من رائحتهم أثناء وبعد التدخين، فأدخلوا العديد من النكهات من أشهرها وأكثرها نجاحاً وتدخيناً من قبل الناس، وهي السجائر بنكهة وطعم النعناع التي تحتوي على مركب «المنثول» (Menthol).
وهكذا استمر الحال مع شركات التبغ العملاقة حتى وصلوا إلى ابتكارِ سيجارة حديثة المظهر، جميلة الشكل والمنظر، صغيرة الحجم، جذابة للشباب والأطفال، وتحتوي على تقنيات عالية متطورة. وفي الوقت نفسه ادعتْ هذه الشركات بأنها مفيدة جداً للجميع وتحل مشاكل المدخنين، فهي أولاً لا ضرر لها من الناحية الصحية، إذ لا تنبعث منها الملوثات والمواد المسرطنة، وثانياً تشجع المدخن للسجائر التقليدية على الإقلاع والعزوف عن تدخينها إلى الأبد، وهذا النوع أُطلق عليه السجائر الإلكترونية(e-cigarette)، وعملية تدخينه يُطلق عليه(vaping).
ولكن هذا النوع الذي في ظاهره الرحمة والعلاج ومن داخله العذاب والإدمان، انتشر بشكلٍ كبير كانتشار النار في الهشيم، وبخاصة بين الشباب والأطفال في كل أنحاء العالم، ولذلك لا بد من تقديم الحقائق العلمية التي يُجمع عليها العلماء حول هذه الآفة الجديدة استناداً على الأبحاث المنشورة في هذا الموضوع البيئي الصحي العام.
الحقيقة الأولى: هذه السيجارة الإلكترونية تستخدم النيكوتين النقي الخالص بدلاً من التبغ، علماً بأنه من المعروف الآن بأن النيكوتين مادة مخدرة وتسبب الإدمان عند المدخنين، أي أن الذي يدخن السيجارة الإلكترونية سيتعود عليها ويدمن على تعاطيها، ولا يستطيع بسهولة التخلص منها.
الحقيقة الثانية: السيجارة الإلكترونية تعمل بالبطارية، حيث تقوم بتسخين، وليس «حرق» النيكوتين المذاب في مخلوط سائل معقد المحتوى، فيتحول هذا المخلوط من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، أو حالة البخار والإيرسول الأبيض اللون الذي يدخل في رئة المدخن وكل من حوله.
الحقيقة الثالثة: هذا المخلوط السائل «السري» يحتوي على النيكوتين، ومواد كثيرة أخرى غير مُعلنٍ عنها بالتفصيل، وتختلف من شركة إلى أخرى، منها المادة المذيبة للنيكوتين وهي الجليسرول (glycerol) أو جليكول البروبلين (propylene glycol)، ومنها آلاف الأنواع من النكهات، والألوان، والمذاقات المختلفة التي لا تُفصح عنها الشركات المصنعة لهذه السجائر، إضافة إلى مركب «الداي أستيل» (diacetyl) الخطر الذي يضاف كمحسن للنكهة والمذاق.
الحقيقة الرابعة: البخار أو الإيرسول الذي ينتج من تسخين المخلوط السائل يحتوي على خليط من مئات الملوثات السامة والخطرة والمواد المسرطنة. فعلى سبيل المثال، عملية تسخين النيكوتين والمخلوط السائل العضوي تنتج عنها تحللات لهذه المواد المعقدة، وهذه بدورها تنجم عنها الكثير من الملوثات، فهناك مركب الفورمالدهيد ومركب النيتروزو أمين، والبنزين، إضافة إلى الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، وجميع هذه الملوثات مُصنفة من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان بأنها مواد تسبب السرطان للإنسان. كذلك الحرارة المرتفعة للجهاز تسبب تسرب المعادن التي يتكون منها الجهاز الإلكتروني منها الكروميوم والرصاص والنيكل والخارصين والزرنيخ، والبعض من هذه المعادن مصنف كمواد مسببة للسرطان للإنسان.
الحقيقة الخامسة: كل المواد التي تنبعث من التسخين والحرارة العالية في السجائر الإلكترونية تعمل مع بعض على إحداث التهابات وحساسية شديدة لمجرى الجهاز التنفسي، وحتماً ستسبب للإنسان في المستقبل أمراضاً مستعصية لم يكتشفها العلم حتى الآن، لأن هذه السجائر تعتبر حديثة العهد بالإنسان، مقارنة بحرق التبغ في السجائر التقليدية والشيشة وغيرهما، والتي درسها الإنسان بإسهاب شديد، وتفصيل كبير منذ أكثر من قرن من الزمن، وتأكد من كمية ونوعية الملوثات التي تنطلق من حرق التبغ، وأثبت من خلال الحالات السريرية الأمراض التي تسببها للبشر.
الحقيقة السادسة: لا توجد أدلة علمية حتى الآن تفيد بأن تدخين السجائر الإلكترونية يؤدي إلى عزوف المدخن عن تدخين السجائر التقليدية.
الحقيقة السابعة والأخيرة فهي أن السجائر الإلكترونية ضارة جداً، وتصيب الإنسان بالأمراض الحادة والمزمنة، ولكنها حتماً أقل ضرراً من السجائر التقليدية ومن الشيشة ومن غيرهما من أنواع السجائر التي تحرق التبغ.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك