ارتفعت أسعار النفط في الآونة الأخيرة، متجاوزة حد الـ93 دولارا للبرميل لخام برنت، ونحو 90 دولارا لخام غرب تكساس، واستمرت موجة الارتفاع بأكثر من 10% على مدار ثلاثة أسابيع في سبتمبر؛ بسبب «مخاوف النقص المحتمل للإمدادات العالمية»، و«استمرار «أوبك بلس» في تخفيضات الإنتاج»، و«توقع نقص الإمدادات نتيجة الحظر الروسي المؤقت على تصدير البنزين والديزل إلى جميع الدول»، بهدف تحقيق استقرار في سوق الوقود المحلية.
وفي حين تتعلق هذه المخاوف بجانب العرض، فإن هناك أخرى تتعلق بجانب الطلب، وهو ما يؤدي إليه تشديد السياسة النقدية في «الولايات المتحدة»، و«أوروبا»، من «تباطؤ» في الطلب، والذي بات يهدد بالتحول إلى «ركود». وبينما ينعش ارتفاع أسعار النفط الاقتصادات الخليجية، ويثري فوائضها، ويعزز احتياطاتها الأجنبية، ويُمكنها من مواصلة تنفيذ مشروعاتها التنموية الكبرى، ويعوضها عن ارتفاع تكاليف مواجهة التضخم الذي ينتقل إليها عبر الاستيراد؛ فإن الركود يحمل تهديد انخفاض الطلب، وانعكاسه على أسعار النفط.
ومن المعلوم، أن اتجاه «بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي»، ومعه البنوك المركزية الأوروبية إلى رفع أسعار الفائدة، من شأنه تثبيط النمو الاقتصادي، والطلب على الوقود. فيما أدى ارتفاع أسعار الفائدة أيضًا إلى ارتفاع سعر الدولار، الأمر الذي يجعل النفط وغيره من السلع الأولية المتداولة بالدولار، عالية التكلفة بالنسبة إلى المشترين بعملات أخرى.
وعليه، عززت المضاربة ارتفاع أسعار النفط. ومنذ يونيو2023، أدت «مراكز صناديق التحوط»، إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة 30%، مع تزايد ارتفاع معدلات الشراء من الأسبوع الثاني من سبتمبر، بعد أن راهنت على احتمالية تجاوز أسعار النفط الـ100 دولار للبرميل، خاصة أن بيانات هذه الصناديق، تعد «مؤشرا»، على نطاق واسع للمستثمرين. علاوة على ذلك، فإن تمديد «السعودية»، و«روسيا»، تخفيضات الإنتاج بمقدار 1.3 ملايين برميل يوميًا حتى نهاية العام، قد أيّد التوقعات بأن أسعار خام «برنت»، قد تتجاوز 100 دولار للبرميل هذا العام. وأكد مصرف «جولد مان ساكس» هذا التوقع؛ بسبب استمرار تخفيضات الإنتاج، ووصول الطلب العالمي إلى مستويات غير مسبوقة.
وفيما أظهرت «بيانات أمريكية»، تراجع مخزونات النفط في «كوشنج» – أكبر مركز تخزين في «الولايات المتحدة» – إلى 22.9 مليون برميل، وواصلت تلك المخزونات انخفاضها للأسبوع السادس على التوالي؛ فقد توقع بنك «جيه بي مورجان»، احتمال ارتفاع سعر خام برنت إلى 120 دولارا للبرميل، إذا واجهت إمدادات النفط «ضغوطا متزايدة»، مع التحذير من أن الأسعار المرتفعة، قد تؤدي إلى توقف النمو الاقتصادي؛ لكن «جولد مان ساكس»، أشار إلى أن «أوبك بلس»، ستكون قادرة على إبقاء أسعار النفط فيما بين 80– 105 دولارات للبرميل في 2024، استفادة من النمو الاقتصادي في آسيا.
وفي حين يعد النفط سلعة الإنتاج والتصدير الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي؛ فإن ارتفاع أسعاره في السوق العالمية يأتي لمصلحتها، ويعزز ذلك أن تكلفة إنتاجه لديها، سواء التكلفة التشغيلية أو الرأسمالية تعد «الأقل عالميًا». ووفقًا لبيانات 2022، بلغت التكلفة التشغيلية لبرميل النفط في السعودية، 5.4 دولارات للبرميل، والتكلفة الرأسمالية 4.5 دولارات للبرميل، بينما تبلغ التكلفة التشغيلية في الكويت 4.6 دولارات، والرأسمالية 3.7 دولارات. وفي المقابل، فإن التكلفة التشغيلية في «الولايات المتحدة»، 14.8 دولارا للبرميل، والرأسمالية 21.5 دولارا. وفي «المملكة المتحدة»، التكلفة التشغيلية 30.7 دولارا، والرأسمالية 21.6 دولارا.
وعلى خلاف «واشنطن»، و«لندن»، التي تملك كل منهما اقتصادًا متقدمًا شديد التنوع؛ فإن الاقتصادات الخليجية، تعتمد على الاستيراد في تلبية معظم احتياجاتها المعيشية والتنموية، ومن ثمّ، كلما ارتفعت أسعار النفط، زادت قدرة هذه الدول على تلبية احتياجاتها التنموية والمعيشية.
ولهذا، فهي دائمًا تبحث عن السعر العادل، الذي يمكنها من تلبية احتياجاتها، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى إرهاق المستهلك، والمستثمر في الدول التي تصدر إليها نفطها، ومن ثم عودة الأسعار إلى الانخفاض.
وفي مايو2023، أدت مخاوف الركود إلى تراجع أسعار النفط بنسبة 7%، ولم تكن هذه المخاوف حينها مجرد توقعات، وضمنت الأسواق مخاطر الركود في أسعار النفط، وواصل «الفيدرالي الأمريكي»، رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم؛ ما رفع تكلفة الاقتراض، ومن ثمّ، تثبيط الميل للاستثمار، والاتجاه إلى تباطؤ اقتصادي، فيما يعتمد الطلب على النفط على مستوى النشاط الاقتصادي. ولعل ما فاقم الوضع –حينئذ– تحذير «الخزانة الأمريكية»، من نفاد أموال الحكومة الفيدرالية، في دفع فواتيرها في وقت مبكر من شهر يونيو، دون رفع حد الدين.
ومع ذلك، فإن المشكلة لم تكن تكمن فقط في رفع سقف الدين، لكن في مشكلات القطاع المالي، التي تتفاقم بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي، كما زاد من حدة مخاوف الركود، انكماش أنشطة التصنيع في الصين، وانخفض مؤشر مديري المشتريات في الصناعة التحويلية الصينية، وهو الذي يقيس حالة نشاط الصناعة في أبريل بمقدار 49.2 نقطة في أربعة أشهر.
وبعد عامين من تشديد السياسة النقدية، أشارت «البنوك المركزية» لأكبر اقتصادات العالم، إلى أنها ستُبقي أسعار الفائدة مرتفعة، حسب الحاجة لكبح التضخم، الذي لم يتم التغلب عليه؛ ما زاد من القلق بشأن توقف النمو العالمي، وهو الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب – السلعة التي يتوجه إليها الناس في ظروف عدم اليقين الاقتصادي – كما استقر سعر الدولار قرب أعلى مستوياته في 6 أشهر.
وفي أكتوبر2022، حذر «البنك الدولي»، من اتجاه العالم إلى الركود الاقتصادي في الفترة المقبلة، مع استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وجائحة كورونا، وضغوط تضخم أسعار الطاقة والغذاء، وأيضًا تأثيرات التغير المناخي، وتوقع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي خلال عام 2023، بأسرع وتيرة منذ 8 سنوات، ويبدأ هذا الركود في الدول المتقدمة، حيث يتراجع معدل النمو الاقتصادي من 5.2% إلى 1%.
وفي خضم التضخم الذي واجه الاقتصادات الغربية، اتُهمت دول الخليج بأنها المسؤولة عن ذلك، نتيجة سياسات تخفيض إنتاج النفط، وما ترتب عليه من شح المعروض، وارتفاع الأسعار. وعليه، طالبتها «الولايات المتحدة»، بزيادة إنتاجها النفطي للتخفيف من الأسعار. ومع ذلك، فإن هذا الاتهام لم يكن مبنيًا على أساس، فما أدى إلى زيادة أسعار الطاقة للمستهلك الغربي، هو «ضريبة الكربون العالية»، التي تفرضها الحكومات الغربية من ناحية، وضعف الاستثمار في عمليات التكرير من ناحية أخرى، ناهيك عن المضاربة. فيما كانت الاقتصادات الخليجية تبحث عن استقرار السوق، وموازنة الطلب بعرض مناسب، لا يتسبب في تخمة معروض تخفض الأسعار، أو شح معروض يرفع الأسعار فوق السعر العادل.
ومن المعلوم، أنه منذ انطلاق الاقتصاد النفطي في دول الخليج، وهي تعاني من ظاهرة «تذبذب أسعاره»، صعودا وهبوطا، وعانت فترات طويلة من انخفاضها، بل أحيانًا ما امتدت الانخفاضات إلى سنوات طويلة، كما حدث من (يونيو 2014 حتى عام 2021)، في نفس الوقت الذي تستمر فيه أسعار السلع التي تستوردها في الارتفاع.
وفي سبيل التعامل مع هذه الظاهرة، لجأت هذه الدول إلى إنشاء صناديق ثروة سيادية تسحب منها، كما تقترض أيضا، للتعامل مع حالة انخفاض أسعار النفط. وفيما توقع «صندوق النقد الدولي»، بنهاية عام 2022، أن أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي سيواجه «انكماشًا» في 2023، وأن هناك احتمالا أن يبلغ معدل نمو الاقتصاد العالمي أقل من 2%، وهو ما يعني ركودًا عالميًا –عزز ذلك تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني– فإن دول الخليج لم تأخذ ما حدث من ارتفاع لسعر النفط في الآونة الأخيرة، على أنه يمثل اتجاهًا يستمر فترة طويلة.
وفي الوقت الحالي، تركز دول الخليج كل اهتماماتها على رفع وتيرة نمو اقتصادها غير النفطي، واستثمار الفوائض في فترات الارتفاع في إثراء احتياطيها، وصناديقها السيادية. ويتصدر هذه الصناديق حاليًا «صندوق أبوظبي للاستثمار»، بحجم أصول 993 مليار دولار (الرابع عالميًا)، وصندوق «هيئة الاستثمار الكويتية»، بحجم أصول 800 مليار دولار، و«صندوق الاستثمارات العامة السعودي»، بحجم أصول 700 مليار دولار، و«جهاز قطر للاستثمار»، يليه «مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية»، و«صندوق مبادلة للاستثمار الإماراتي»، و«أبوظبي التنموية القابضة».
ومنذ 2018 وحتى نهاية 2022، ارتفعت هذه الأصول بنسبة 70%، وبلغ إجماليها 3.6 تريليونات دولار، أي نحو 33% من إجمالي أصول الصناديق السيادية لدول العالم، فيما بلغت استثمارات دول الخليج في أذون وسندات الخزانة الأمريكية، أكثر من 245 مليار دولار، بنهاية ديسمبر الماضي، وجاءت السعودية في المرتبة الأولى، تليها الإمارات.
على العموم، يخفف ارتفاع أسعار النفط حاليًا من وطأة الركود على الاقتصادات الخليجية غير النفطية، كما يمكنها من حماية مواطنيها والمقيمين فيها من انعكاسات التضخم. ومن المتوقع أن يبلغ معدل متوسط التضخم في هذه الاقتصادات 2.7%، كما يمكنها السعر المرتفع من تعويض تخفيض إنتاجها الطوعي، ومن ثمّ، إطالة العمر الافتراضي لثرواتها النفطية، ناهيك عما يؤدي إليه تنويع إنتاجها من مصادر الطاقة الأخرى من زيادة هذا العمر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك