لم يكن الانفراج الذي أحدثته اتفاقات أوسلو موجودا في تفاصيله، بقدر ما كان موجودا في جمله الافتتاحية، التي اعترفت فيها الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية بشرعية بعضهما البعض كممثلين لشعبين منفصلين وكشركاء في التفاوض.
لقد أسهمت بقية الاتفاقيات في تعرية الكثير من نقاط الخلاف بين الأطراف، أكثر مما أسهمت في تقديم أي خارطة طريق حقيقية للمضي قدمًا إلى الأمام، كما أوضحت قراءة النص القضايا الرئيسية التي حددت الهوة العميقة التي تفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين وعدم قدرتهم على حل الخلافات التي تفرقهم. كان الأمر كما لو كانوا يقولون: «هذا أقصى ما يمكننا الوصول إليه». لقد كان الأمر أكثر من مجرد اتفاق. لقد كان الأمر بمثابة صرخة طلبا للمساعدة.
وفي غضون أيام من التوقيع على تلك الاتفاقيات، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية إما لم تسمع تلك الصرخة، أو أنها لم تكن راغبة في سماعها. ومن خلال استماعه إلى «فريق السلام» من مستشاريه، قال الرئيس بيل كلينتون آنذاك إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تدخل نفسها في العملية من خلال العمل كوسيط.
وبتخليها عن دورها كضامن للاتفاقات، أوضحت الولايات المتحدة الأمريكية أن الأمر متروك الآن للأطراف للتفاوض على الحلول فيما بينها. كان الأمر كما لو أن زوجين كانا يتشاجران لعقود من الزمن ذهبا إلى مستشار زواج يطلبان المساعدة فقط ليقال لهما: «أنا سعيد لأنكما تعلمان أنكما بحاجة إلى المساعدة. لا أستطيع أن أفعل هذا من أجلكما، لذلك سأترككما لتحلا هذا الأمر بنفسيكما».
لقد كانت تلك الضربة القاتلة التي أدت في نهاية المطاف إلى وفاة مسار أوسلو وانهياره بالكامل. لقد كانت هناك العديد من المشاكل الجوهرية التي أسهمت في ذلك الفشل الذريع.
أولاً وقبل كل شيء، كان عدم التكافؤ الواضح في القوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبمجرد هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية كقوة خارجية وسحق الانتفاضة الأولى، أصبح الفلسطينيون في الأراضي المحتلة منهكين ومن دون أي نفوذ.
ولم تكن «السلطة» التي كان من المقرر أن تنشئها منظمة التحرير الفلسطينية تتمتع بسلطة أو قوة حقيقية ـ وكانت تعتمد عند كل منعطف على إسرائيل في قدرتها على البقاء.
ومن ناحية أخرى، كان للإسرائيليين سيطرة عسكرية كاملة على السكان. وكانت حكومتهم عبارة عن ائتلاف هش، وتواجه معارضة يمينية متشددة استمرت في تحدي شرعية رئيس الوزراء إسحاق رابين، لأن الحفاظ على أغلبية ائتلافه يتطلب دعم الأحزاب التي تمثل المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.
ومن الناحية العملية، لم يتوقف إسحاق رابين قط عن الإذعان للمعارضة فيما يتعلق بالإجراءات المناهضة للفلسطينيين والتوسع الاستيطاني. وهكذا، مع استمرار إسرائيل في فرض إرادتها على الأراضي المحتلة، فإن كل ما كان بوسع الفلسطينيين أن يفعلوه هو مناشدة الولايات المتحدة الأمريكية غير المستجيبة والتي لم تكن لها آذان صاغية.
ومع ذلك فإن المشاكل التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أثبتت أنها حاسمة، ولكن ليس على النحو الجيد. لقد تصرف «فريق السلام» المؤلف من المستشارين الذي تركه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وكلفه بمسؤولية عملية السلام، كما لاحظ أحد أعضاء الفريق في وقت لاحق، وكأنه «محامي إسرائيل» أكثر من كونه وسيطا نزيها بين الطرفين.
لفد نصح أعضاء ذلك الفريق الرئيس الأمريكي بضرورة ترك الأطراف لحالها – واستمروا، في كل خطوة على طول الطريق، في رؤية المأساة تتكشف من خلال عدسة إسرائيلية، غير أبهة أو مدركة للتصورات والاحتياجات الفلسطينية.
وتعرض الفلسطينيون للضغوط لحملهم على قمع معارضيهم المناوئين لعملية السلام – وهو ما كانوا يفتقرون إلى القدرة على القيام به – أو الإذعان لردود فعل إسرائيل غير المتناسبة في كثير من الأحيان على أعمال العنف الفلسطينية. كما طُلب من الفلسطينيين أن يفهموا ويتفهموا المشاكل الداخلية التي يواجهها إسحاق رابين والمهلة التي منحها للمتطرفين الإسرائيليين الذين كانوا يتصرفون بطرقهم الخاصة لتخريب عملية صنع السلام.
وقد تفاقم الدور السلبي الذي لعبه «فريق السلام» الأمريكي، بسبب الدور المعرقل الذي لعبه الكونجرس الأمريكي.
وبعد وقت قصير من توقيع الاتفاقيات، كان من المتوقع أن يلغي الكونغرس تشريعاته المناهضة للفلسطينيين ويمرر حزمة مساعدات لدعم السلطة الفلسطينية الوليدة. وبدلاً من ذلك، أقر الكونجرس مشاريع قوانين مقيدة لم تفشل في رفع الحظر المفروض على منظمة التحرير الفلسطينية فحسب، بل فرضت أيضًا شروطًا مرهقة على أي مساعدات أمريكية للفلسطينيين وعلى العلاقات معهم.
وفي حين روجت الإدارة لـ «مساعداتها للفلسطينيين»، في السنوات الأولى بعد إبرام اتفاقيات أوسلو، ذهبت تلك المساعدات مباشرة إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي قامت بعد ذلك بتوزيعها على المنظمات غير الحكومية الأمريكية لتنفيذ مشاريع لم يكن للفلسطينيين رأي في تحديدها. وفي كثير من الأحيان، لم يتم صرف الأموال على الإطلاق.
ومما زاد الطين بلة، أنه بعد وقت قصير من إبرام اتفاقيات أوسلو، أنشأت المعارضة الإسرائيلية لرابين في حزب الليكود جماعة ضغط مضادة في واشنطن، بقيادة بنيامين نتنياهو. ومن خلال الشراكة مع الجمهوريين في الكونجرس، بدأت جهود الضغط الأمريكية هذه في تخريب عملية السلام.
وبعد فوز الجمهوريين في الانتخابات وسيطرتهم على الكونجرس عام 1994، تم تحديد الجانبين: كلينتون ورابين مقابل الجمهوريين والليكود ولم يبق للفلسطينيين أي فرصة، حيث فُرضت عليهم المزيد من الإجراءات العقابية، في حين مُنحت إسرائيل كل العون والفرص. وبعد اغتيال إسحاق رابين وانتخاب نتنياهو، تمكنت إسرائيل إلى حد كبير من العمل على الإفلات من العقاب، وبلغت ذروتها عندما دعا الكونغرس ذو الأغلبية الجمهورية نتنياهو إلى جلسة مشتركة أوضح فيها نيته إنهاء عملية أوسلو.
لقد تفاقم عدم التكافؤ بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كانت لدى إسرائيل القوة بينما لم يكن للفلسطينيين أي من عوامل القوة. حصلت إسرائيل على الدعم، بينما واجه الفلسطينيون مزيدا من الضغوط. كانت اتفاقيات أوسلو في الأثناء تموت موتاً بطيئاً.
ومنذ أوسلو، أصبح الفلسطينيون أكثر فقراً، وتضاعفت معدلات البطالة؛ وزادت المستوطنات بشكل كبير بنسبة 50 في المائة، وكذلك الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية؛ وبينما كان الإسرائيليون يتصرفون من دون عقاب، كان الفلسطينيون يفقدون الأمل في المستقبل.
ظل هذا التباين يتفاقم حتى يومنا هذا، بل إن حل هذا الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، والذي يعود إلى عقود من الزمن، يظل بعيد المنال.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك