أصدر «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، (أونكتاد) في 5 يوليو الماضي، تقريره السنوي عن الاستثمار الأجنبي المباشر 2023، والذي تغطي بياناته عام 2022. ووفقًا للتقرير، فقد انخفضت التدفقات العالمية بنسبة 12% في هذا العام عن عام 2021، وبلغت 1.3 تريليون دولار، بينما كانت 1.478 تريليون دولار في 2021. كما أدت الأزمات المتداخلة بما فيها؛ «الحرب في أوكرانيا»، و«ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة»، و«عدم اليقين بشأن تطورات الاقتصاد العالمي»، و«الضغوط المتعلقة بأعباء الديون»؛ إلى انخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة، بنسبة تصل إلى 16% في أقل البلدان نموًا، والتي تقع غالبيتها في إفريقيا.
علاوة على ذلك، سجل التقرير «تباطؤا عاما»، في استثمارات الطاقة المتجددة، وانخفاضا في صفقات تمويل المشاريع الدولية. وكانت أكبر فجوات الاستثمار، المتصلة بأهداف التنمية المستدامة في البلدان النامية، في مجالات «الطاقة، والمياه، والبنية التحتية للنقل». في مقابل ذلك، اتجهت شركات الطاقة نحو مصادر الطاقة المتجددة، بمعدل حوالي 15 مليار دولار سنويًا. في حين بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في الطاقة النظيفة، الذي اجتذبته البلدان النامية 544 مليار دولار، على الرغم أنه أقل بكثير من الاحتياجات، خاصة وأن أكثر من 30 دولة نامية، لم تسجل استثمارا دوليا واحدا كبير الحجم في توليد الطاقة المتجددة منذ اتفاقية باريس للمناخ 2015.
وعليه، طالب الأمين العام للأونكتاد، «ريبيكا جرنسبان»، بضرورة زيادة الدعم المادي للطاقة المتجددة للبلدان النامية بشكل كبير، في سبيل بلوغ أهداف العالم المناخية بحلول 2030، محذرة من أن بناء مستقبل أخضر سيبقى بعيد المنال، إذا لم يساعد العالم هذه البلدان في سد فجوة تبلغ تريليوني دولار في الاستثمار من أجل التحول في مجال الطاقة، فيما يبلغ حجم فجوة الاستثمار اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في البلدان النامية، بشكل عام نحو 4 تريليونات دولار.
وانعكاسًا لهذا النهج، توقع «الأونكتاد»، أن الضغوط التي كانت في 2022 ستستمر في 2023، فيما طالب بتنفيذ عدد من التوصيات على رأسها؛ «وضع سلسلة من السياسات وآليات التمويل لمساعدة الدول النامية على جذب الاستثمارات اللازمة»، و«تخفيف عبء الديون على الاقتصادات النامية، لتزويدها بالحيز المالي اللازم للإنفاق على الطاقة النظيفة»، و«ضرورة خفض تصنيفات المخاطر القطرية» – وهو شرط أساسي لجذب استثمارات القطاع الخاص – كما أوصى «بخفض تكلفة رأس المال للاستثمار في الطاقة النظيفة»، من خلال شراكات بين المستثمرين الدوليين والقطاع العام والمؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وهو إجراء يمكن أن يقلل تكاليف الاقتراض للمشاريع الاستثمارية للطاقة في البلدان النامية، بنسبة قد تصل إلى 40%.
وفي هذا التقرير، حلت «الإمارات»، في «المرتبة الأولى»، على مستوى منطقة غرب آسيا، مستحوذة على نسبة 47.1% من إجمالي التدفقات الواردة إلى المنطقة، والبالغة 48.3 مليار دولار، كما احتلت نفس المرتبة على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 32.4% من إجمالي التدفقات الواردة إلى هذه المنطقة، والبالغة نحو 70.2 مليار دولار، حيث تمكنت من جذب حجم استثمارات أجنبية مباشرة هو الأعلى في تاريخها، بلغ 22.737 مليار دولار في 2022، بزيادة بنسبة 10% عن العام السابق، فيما قفزت 6 مراكز في الترتيب العالمي، الذي جاءت فيه في المرتبة 16، وغدت رابع أكبر متلقي في العالم لاستثمارات المشاريع الجديدة بإجمالي 997 مشروعا، وحلت بذلك بعد الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والهند، بنسبة زيادة 80% عن العام السابق.
ومن الثابت أنّ، تبوُّء الإمارات لهذه المكانة كان نتيجة مناخ الاستثمار المتميز الحافل بحوافز المستثمرين، ودعم ريادة الأعمال، كالسماح للمستثمرين من مختلف الجنسيات بتأسيس وتملك الشركات بنسبة 100%، في كل القطاعات الاقتصادية -باستثناء عدد من القطاعات ذات الأثر الاستراتيجي، التي تتطلب موافقة السلطات المعنية– فيما كانت «أبو ظبي»، قد أطلقت مبادرة «الجيل الثاني للاستثمار الأجنبي المباشر»، في يوليو 2022؛ بهدف جذب الشركات الرقمية من مختلف أنحاء العالم، وتزويدها بالأساسيات اللازمة لدخول السوق، والتوسع من داخل الإمارات، التي تعد من أكبر مصادر ضخ الاستثمارات عالميًا، حيث ضخت إلى الخارج استثمارات بلغت قيمتها 25 مليار دولار في عام 2022 وحده.
أما بالنسبة إلى السعودية، فقد جاءت في «المرتبة الثانية»، خليجيًا، بتدفقات بلغت 7.9 مليارات دولار في 2022، وبانخفاض بنسبة 59% عن العام السابق، الذي سجلت فيه تدفقات بلغت 19.3 مليار دولار. وجاءت «سلطنة عُمان»، في «المرتبة الثالثة»، خليجيًا باستثمارات بلغت 3.7 مليارات دولار، بانخفاض بنسبة 8% عن العام السابق، الذي بلغت فيه 4.02 مليارات دولار، ثم جاءت «البحرين»، الرابعة خليجيًا، بتدفقات بلغت 1.95 مليار دولار في 2022، بزيادة بلغت 10% عن العام السابق. فيما نجحت «قطر»، في التحول إلى تحقيق صافي تدفق استثمارات أجنبية مباشرة داخلة إلى البلاد، بقيمة 76 مليون دولار، مقابل صافي تدفقات للخارج العام الماضي بأكثر من مليار دولار. أما «الكويت»، فقد جذبت 758 مليون دولار في 2022، بنمو بنسبة 34% عن عام 2021، الذي حققت فيه تدفقات الاستثمار الواردة 567 مليون دولار.
ونتيجة لهذا، فإن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى دول «مجلس التعاون الخليجي»، قد بلغ 37.1 مليار دولار في 2022، مقارنة بـ 45.23 مليار دولار في 2021، ومثّل الاستثمار في هذه الدول ما نسبته 3% من إجمالي الاستثمار حول العالم، ونحو 5.6% من إجمالي الاستثمار في آسيا. واستحوذت «الإمارات»، و«السعودية»، وحدهما على 82% من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دول المجلس في 2022.
وعلى مدى الأعوام الخمسة الأخيرة من (2018– 2022)، بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى دول «المجلس»، نحو 155.8 مليار دولار؛ 29% منها كان في 2021، و23.8% في 2022. وخلال هذه السنوات، كان نصيب «الإمارات»، هو الأكبر بواقع 91.5 مليار دولار، تلتها «السعودية»، باستثمارات بلغت 41.4 مليار دولار. وجاءت «سلطنة عُمان»، في المرتبة الثالثة بواقع 21.3 مليار دولار، ثم «البحرين»، بما يقرب من 8 مليارات دولار، فيما سجلت «قطر»، تدفقات سالبة خلال الفترة بلغت 8.4 مليارات دولار. ومن خلال «الاستراتيجية الوطنية للاستثمار»، التي أطلقتها «الرياض»، في أكتوبر 2021، فإنها تتطلع إلى وصول الاستثمار الأجنبي المباشر إلى نسبة 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030.
وتشير توقعات تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى دول الخليج، إلى أن القطاعات «الأكثر جذبًا»، للاستثمار، هي التصنيع القائم على الاستخدام الكثيف للطاقة، حيث بدأت الكثير من الشركات الأوروبية، الأكثر تأثرًا بأزمة الطاقة في بلادها، بالتخطيط لنقل أعمالها، وتأسيس مقار لها في أسواق الخليج الغنية بالنفط، مستفيدة من المبادرات التي قدمتها هذه الدول لحفز الاستثمار الأجنبي المباشر، كالإقامة الذهبية والمزايا الضريبية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستثمار الزراعي القائم على الابتكار، وتطويع التكنولوجيا للظروف البيئية الخليجية؛ يحظى باهتمام المستثمرين -مع اعتبار الأمن الغذائي أولوية أولى – فضلا عن الاستثمار في الأصول المالية، كالودائع الثابتة والسندات، حيث إن رفع أسعار الفائدة يجعل السلع أقل جاذبية من هذه الأصول، خاصة وأن كل دول الخليج – عدا «الكويت» – ترتبط عملاتها بالدولار، الذي يرفع بنك الاحتياطي الأمريكي أسعار الفائدة عليه بوتيرة عالية لاحتواء التضخم. ويأتي ذلك التفضيل أيضًا في ظل التباطؤ الاقتصادي العالمي، والتخوف من تحوله إلى ركود، كما أن قطاع البنية التحتية من القطاعات التي يتجه إليها الاستثمار الأجنبي، فضلاً عن مشاريع الطاقة المتجددة، والسياحة، والمشروعات العقارية خاصة الإسكان.
وتشير «بيانات الربع الأول لعام 2023»، أن «السعودية» – التي تستهدف جذب 100 مليار دولار استثمارات بحلول 2030 – قد تمكنت من جذب 2.2 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة في هذه الفترة، بزيادة بنسبة 10.3% عن مثيلتها في العام السابق، فيما أجرت أكثر من 700 تغيير تنظيمي لجهة جذب المستثمرين، وأطلقت «الاستراتيجية الوطنية للاستثمار»، 40 مبادرة لدعم الإصلاحات التشريعية في بيئة الاستثمار في المملكة.
وفي حين ارتفع رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في «البحرين»، إلى 13.3 مليار دينار بحريني بنهاية 2022، فإنه مع إعلان استثمار أكثر من 30 مليار دولار في البنية التحتية للبلاد -ضمن خطة التعافي الاقتصادي – تتوقع جذب 2.5 مليار دولار، استثمارا أجنبيا مباشرا بنهاية 2023. وفي «سلطنة عُمان»، ارتفع رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 23.3% في الربع الأول لعام 2023، مقارنة بمثيله في العام الماضي، وبلغ 55.7 مليار دولار.
وكان «جهاز الاستثمار العماني»، قد دخل في شراكة مع «صندوق الثروة السيادي السعودي»، ووقع مذكرة تفاهم تهدف إلى توسيع واستكشاف فرص التعاون والاستثمار المشترك، مع تخصيص 5 مليارات دولار استثمارات سعودية محتملة في السلطنة. كما شهدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في «الكويت»، قفزة بنسبة 5% بنهاية الربع الأول لعام 2023، إذ سجل الاستثمار الأجنبي المباشر نحو 4.85 مليارات دينار، مقارنة بـ4.6 مليارات دينار بنهاية الربع الرابع لعام 2022.
وفيما يسعى قطاع الأعمال حول العالم للاستفادة من الفرص، التي يوفرها نمو الاقتصادات الخليجية، خاصة تلك المشروعات التي تضمنتها رؤاها المستقبلية؛ فإن هذه الاقتصادات أيضًا تسعى إلى احتلال مراكز متقدمة في مؤشر ثقة الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي كثيرًا ما ينظر إليها قطاع الأعمال عند أخذ قراره بالتوجه للاستثمار في أي قُطر. وهذا المؤشر تصدره «الشركة العالمية للاستشارات الإدارية»، «كيرني»، سنويًا منذ 25 عاما، بعد أن تكون قد أجرت مسحها السنوي لكبار المديرين التنفيذيين ورواد الأعمال في العالم، حيث يحدد الأسواق التي من المرجح أن تجذب أكبر قدر من الاستثمار في السنوات الثلاثة المقبلة، ومنذ إصداره، حلت «الولايات المتحدة»، في المرتبة الأولى عالميًا.
وفي هذا المؤشر لعام 2023، جاءت «الإمارات»، في المرتبة 18 عالميًا، و«السعودية»، في المرتبة 24. وفي تصنيف الأسواق الناشئة حلت «الإمارات»، في المرتبة الثالثة عالميًا، بعد كل من الصين والهند، فيما جاءت «قطر»، في المرتبة الرابعة، و«السعودية»، في المرتبة السادسة، بعد أن سجلت معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي 8.7% في 2022، وأجرت إصلاحات شاملة لتعزيز بيئة الأعمال والتنويع الاقتصادي.
على العموم، لا تنظر دول «مجلس التعاون الخليجي»، إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، كمصدر تمويل؛ لكنها تنظر إليه باعتباره «ناقلا أساسيا»، للتكنولوجيا المتقدمة، التي تعتمد عليها في تحقيق رؤاها المستقبلية. وعليه، فقد أقرت كل منها استراتيجيات، ووضعت خططا؛ لحفز قدوم هذه الاستثمارات، ولا يكاد يمضي عام حتى ينعقد لديها منتدى تسعى فيه إلى زيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية إليها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك