على الرغم من علاقتهما المعقدة والمضطربة في كثير من الأحيان، يتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت على أمر واحد: أن إيران تقف وراء المشكلة الأمنية التي تواجهها إسرائيل.
إن الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي في إسرائيل، والأزمات السياسية والقضائية التي تعيشها البلاد، والمذابح المستمرة التي يرتكبها المستوطنون في الضفة الغربية، والدعوات المتكررة للحرب الدينية من جانب وزراء تل أبيب اليمينيين المتطرفين ـ كل هذه المشاكل التي لا تعد ولا تحصى أصبحت فجأة لا قيمة لها. المشكلة هي إذا إيران.
ورغم أن إيران، باعتبارها عدوا مشتركا، غالبا ما توحد كل الأحزاب السياسية الإسرائيلية الكبرى، فإن التهديد الإيراني المفترض هذه المرة مختلف تماما.
عقب الهجوم الفلسطيني الذي أسفر عن مقتل مستوطن وإصابة آخر بالقرب من مدينة الخليل الفلسطينية المحتلة قال بنيامين نتنياهو: «نحن في خضم هجوم إرهابي تشجعه وتوجهه وتموله إيران ووكلاؤها». كان ذلك يوم 21 أغسطس 2023.
جاءت تلك العملية بعد يومين فقط من هجوم آخر أدى إلى مقتل مستوطنين إسرائيليين بالقرب من بلدة حوارة القريبة من مدينة نابلس الواقعة في شمال الضفة الغربية.
كانت حوارة، وهي بلدة صغيرة يبلغ عدد سكانها 5500 نسمة، موقعًا لمذبحة صريحة نفذتها حشود كبيرة من المستوطنين اليهود الإسرائيليين المسلحين في 26 فبراير 2023م.
ووصفت منظمة العفو الدولية ما حدث في البلدة على النحو التالي: «في ليلة يوم الأحد 26 فبراير، نفذ المئات من المستوطنين الإسرائيليين المدعومين من الدولة موجة من الهجمات ضد الفلسطينيين (في حوارة)... وأحرق المستوطنون عشرات السيارات والمنازل والمباني والبساتين، فضلا عن الاعتداءات الجسدية على الفلسطينيين، بالقضبان المعدنية والحجارة».
في العادة، كان كل هجوم فلسطيني على الجنود الإسرائيليين، أو المستوطنين المسلحين أو حتى المدنيين، يسبقه عدد كبير من الغارات الدموية المدمرة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي أو هجمات المستوطنين على المجتمعات الفلسطينية.
لا يمر يوم دون حدوث أعمال عنف إسرائيلي في فلسطين المحتلة. وتشير تقارير منظمة الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية ودولية إلى أن هذا العام هو الأكثر عنفا في الضفة الغربية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.
قُتل أكثر من 200 فلسطيني ونحو 30 إسرائيليًا منذ شهر يناير 2023، وفقًا للبيان الذي أدلى به مبعوث منظمة الأمم المتحدة للشرق الأوسط تور وينيسلاند إلى مجلس الأمن الدولي في يوم 21 أغسطس.
وذكرت أخبار الأمم المتحدة أن وينيسلاند وصف العنف بأنه «اتجاه مثير للقلق»، وعزا ذلك إلى «الشعور المتزايد باليأس بشأن المستقبل».
وقد توصلت وكالة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى نتائج مماثلة، حيث ذكرت أنه تم الإبلاغ عما يقرب من 600 «حادثة» متعلقة بالمستوطنين في الأراضي المحتلة في الأشهر الستة الأولى من عام 2023، وأدت هجمات المستوطنين إلى «سقوط ضحايا فلسطينيين أو أضرار في الممتلكات أو كليهما».
ولم يذكر وينسلاند ولا مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إيران في تصريحاتهما، كما لم يذكر التدفق المستمر للتقارير حول العنف الإسرائيلي المستمر أو التحريض أو، في بعض الأحيان، الدعوات الصريحة للإبادة الجماعية من قبل المستوطنين وقادتهم في حكومة نتنياهو.
أما بالنسبة إلى السبب الكامن وراء «الشعور باليأس» المذكور في تقرير وينسلاند في الأمم المتحدة، فقد يكون لدى منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية المناهضة للاستيطان إجابة.
وفي بيان صدر يوم 17 أغسطس2023، قالت المجموعة الإسرائيلية إن حكومة نتنياهو تتقدم بخطة «لاستثمار غير مسبوق» بقيمة 200 مليون دولار تقريبًا في المستوطنات اليهودية غير القانونية في الضفة الغربية.
وقالت حركة السلام الآن على موقعها على الإنترنت «هناك بنود لم تحدد بعد حجم المخصصات لذا من المتوقع أن يرتفع المبلغ الإجمالي بشكل كبير».
وبما أن مبلغًا كبيرًا من الأموال يوصف بأنه منح «غير محددة»، فإنه يُسمح للمستوطنات غير القانونية «باستخدام الأموال لأي غرض تقريبًا».
وهذا لا يعني سوى توسيع المستوطنات غير القانونية، وبناء بؤر استيطانية جديدة، والتطهير العرقي للفلسطينيين، وتمهيد الطريق للضم القانوني الكامل للضفة الغربية.
إن مصطلح «التطهير العرقي» لا يُستخدم هنا باستخفاف.
وبعيداً عن «الإبادة الجماعية المتزايدة» التي تحدث يومياً في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، يتم في بعض الأحيان طرد مجتمعات كبيرة بشكل جماعي.
أفاد المجلس النرويجي للاجئين (NRC) مؤخرًا بطرد ما يقرب من 500 فلسطيني من سبع مجتمعات في الضفة الغربية في غضون 20 شهرًا، والعديد منهم من مجتمع رأس التين البدوي، شمال مدينة رام الله.
وعلقت آنا بوفرزينيتش، مديرة المجلس النرويجي للاجئين في فلسطين، على النتائج قائلة: «يتم محو مجتمعات فلسطينية بأكملها من على الخريطة، وهو إرث شائن من العنف المتواصل والترهيب والمضايقات التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون، وفي بعض الحالات، بتشجيع من السلطات الإسرائيلية».
والقائمة لا نهاية لها، ولا شيء يشير إلى أن إيران ذات صلة بأي جزء من هذه المناقشة. ولا يمكن لأي مراقب صادق أن ينكر العلاقة المباشرة بين الاحتلال الإسرائيلي والعلاقات الفلسطينية.
لكن من غير المتوقع أن يكون نتنياهو أو جالانت صادقين في تصويرهما لما يحدث في فلسطين الآن.
وكأنه يقرأ من النص نفسه، اتفق جالانت مع رئيسه على التهديد الإيراني المزعوم. وقال جالانت إن «التغيير الأهم على الأرض يتعلق بالتمويل والنوايا الإيرانية»، معلنا أن «إيران تبحث عن أي وسيلة لإيذاء مواطني إسرائيل».
والمفارقة هنا هي أن الصراع السياسي بين نتنياهو وجالانت منذ شهر مارس 2023م كان سبباً في تأجيج أكبر أزمة سياسية في تاريخ الدولة الإسرائيلية. الأزمة مستمرة ومع ذلك، فإن كليهما يبرز الآن باعتبارهما من أنصار الأمن الإسرائيلي ضد التهديد الإيراني المفترض. لكن لماذا يتفق الاثنان على أي شيء؟ ولماذا إيران بالذات؟ ولماذا الآن؟
من المنتظر أن يستفيد كل من نتنياهو وجالانت من صرف الانتباه عن الأسباب الكامنة وراء التمرد المستمر في فلسطين.
بالنسبة إلى نتنياهو، فإن إلقاء اللوم على إيران يسمح له بتأجيج نار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وتوحيد كل الإسرائيليين خلف المدافع المفترض عنهم، وتجنب أي مساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في فلسطين.
أما بالنسبة إلى جالانت، فإن إلقاء اللوم على إيران يرفع مستوى المؤسسة العسكرية وجميع فروع أجهزة الاستخبارات؛ فبدلاً من أن يُنظر إليه على أنه فاشل في وقف النضال الفلسطيني الداخلي، يريد أن يرسم صورة بديلة لجيش بطولي يحارب «تهديداً وجودياً» يحاك في مكان آخر.
وهذه ليست حالة بسيطة من الافتقار إلى الوعي الذاتي، بل إنها تحويل متعمد للمشكلة الفعلية: الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري.
على مر السنين، أصرت إسرائيل على أن الفلسطينيين ليسوا فاعلين سياسيين قادرين على اتخاذ قراراتهم الجماعية، وأن بعض البعبع في أماكن أخرى ـ العرب، والإيرانيين، والشيوعيين، والإسلاميين، وما إلى ذلك... ـ هم المسؤولون عن ذلك.
لكن تل أبيب مخطئة. لكي تفهم إسرائيل الأسباب الكامنة وراء المقاومة الفلسطينية المتنامية بجميع أشكالها، عليها أن تنظر إلى مخيمات اللاجئين المدمرة في جنين وبلاطة ونور شمس - وليس إلى طهران - للحصول على الإجابات.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك