في ظل ما يمر به العالم من صراعات وتكتلات وتحديات جيوسياسية يصبح للتكامل العربي والتكامل الخليجي أبعاد مهمة منها البعد الاقتصادي وأهمها الأمن القومي والوطني وما يشمله من أمن غذائي وإنساني. في هذه الأجواء جاء اجتماع الغرف التجارية في 12 سبتمبر 2023 ليناقش كيفية إنعاش جهود التكامل العربي بعد الصعوبات التي مر بها منذ إطلاق الفكرة. خرج المؤتمر بوثيقة «إعلان البحرين للقطاع الخاص العربي» التي سوف يرفعها إلى القيادات السياسية في الدول العربية. تضمنت الوثيقة عددا من التوصيات المهمة والتي نأمل أن ترى فرص النقاش على نطاق مجتمعي عربي واسع والتطبيق في وقت قريب. لم يتضح من المؤتمر إن كان قد تطرق إلى أسباب تأخر تطبيق التوصيات السابقة والاتفاقيات التي دخلت بها الدول العربية منذ أربعينيات القرن العشرين وقمة عمان 1980 التي صودق فيها على «وثيقة استراتيجية العمل الاقتصادي العربي». لذلك نأمل أن تكون قدرة غرف التجارة والقائمين عليها أكثر حظا في المتابعة والتأثير والتوصل إلى مرحلة التنفيذ سريعا خصوصا وأنه تطرق إلى قضايا مهمة وكبيرة مثل استراتيجية للاقتصاد الدائري والربط العربي في الطاقة وتطوير النقل البري والاستثمار في تجهيز موانئ محورية عربية. كل من هذه التوصيات يحتاج إلى دعم سياسي من القيادات العربية لتدخل حيز التنفيذ فهل يتوفر هذا الدعم في هذه الظروف الصعبة؟
تلخصت التوصيات التي وردت في «إعلان البحرين للقطاع الخاص العربي» في أهمية مضاعفة الجهود لتحقيق التكامل الاقتصادي والاجتماعي العربي. شملت التوصيات ما يتعلق بالاندماج في الاقتصاد العالمي؛ تحسين الأوضاع الاجتماعية بدعم شبكات الأمن الاجتماعي؛ حريات انتقال الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال، ونضيف حرية انتقال «المعرفة»؛ التخطيط لتطوير اقتصاد رقمي معرفي تشاركي دائري؛ الربط في الطاقة؛ النقل البري والبحري والجوي؛ الاستثمار اللوجستي؛ سياسة التعليم والبحث العلمي؛ الأمن الغذائي والمائي؛ ريادة الأعمال والابتكار؛ استراتيجية واقعية لتحقيق التكامل الاقتصادي؛ التجارة الحرة؛ الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة. جميع هذه التوصيات مهمة وضرورية فما فرص تنفيذها ومتابعتها، وماذا متوقع لها من نجاح وما العوامل المؤثرة في النتيجة.
في أعقاب النشوة بالانتصار في حرب أكتوبر 1973 تم في عام 1974 التفكير في وضع استراتيجية للعمل الاقتصادي العربي المشترك والتنمية الاقتصادية العربية، نتج عن ذلك تخصيص القمة الحادية عشرة في عمان عام 1980 للشؤون الاقتصادية، تمخضت عن اتفاقية التبادل التجاري عام 1981 وهي في الواقع إحياء لاتفاقية الترانزيت 1953. كذلك ظهرت ثلاثة مجالس تعاونية تعبر عن المناطق العربية منها مجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي في 1989، ومجلس المغرب العربي في 1989. تعرضت هذه التجارب إلى عقبات أهمها ضعف التزام بعض الدول العربية بالاتفاقيات ولم تسفر عن زيادة في التبادل التجاري بما يكفي، بين دول الاتحادات أو بين الدول العربية كمجموعة.
بالنظر إلى التوصيات نجد بعض هذه التوصيات يمكن تطبيقها على مستوى الدولة وبالتالي قد يكون أسهل في التطبيق. لكن بعضها يتطلب جهدا جماعيا مما يبقينا في دائرة مغلقة يصعب الخروج منها. تم طرح العديد من التوصيات بصيغ أخرى وجابهت معوقات حالت دون تنفيذها. فمثلا بالنسبة إلى التوصية الأولى تدعو إلى مضاعفة الجهود للاندماج في الاقتصاد العالمي. تفترض التوصية أن هناك إما تقصير في الجهود أو عدم توجيهها التوجه السليم، هذا يتجاهل المعوقات المتعددة التي ذكرتها الكثير من الدراسات. في ضوء ما يحدث اليوم من اجتهاد عربي في دول الخليج والسعودية بشكل خاص ينبغي أن تدرس هذه المعوقات ووضع حلول عملية تأخذ في الاعتبار المعوقات التي حالت دون التقدم في السابق؟
أما التوصية الثانية والمتعلقة بالأوضاع الاجتماعية، فتطالب بدعم «شبكات الأمن الاجتماعي» على مستوى الدولة والتعاون على المستوى العربي. هذه توصية مهمة ولها تأثير إيجابي في وضع المواطن العربي بشكل عام ودعم التنمية وريادة الأعمال بوجه خاص. غير أن تطبيق مثل هذه التوصية ليس بالأمر الممكن ضمن اقتصادات منفصلة عن بعضها، الخيار الممكن وضع معايير مشتركة وترك التطبيق يتم على مستوى الدولة. هذا سوف يتطلب دعما من الدول الغنية للدول الفقيرة سواء بشكل مباشر أو على شكل بناء الاقتصاد والقدرات الإنتاجية، وهذه قضية تعطلت بسبب صعوبات ومعوقات مؤسسية وسياسية وتنظيمية مازالت قائمة. لذلك فإن الأولوية ينبغي أن تكون معالجة هذه المعوقات وأن تكون ضمن خطة التنفيذ.
عدد من التوصيات تتعلق بالربط بين الدول العربية سواء كان في الطاقة المتجددة أو المواصلات البرية والبحرية أو الأمن الغذائي وهذه قضايا استراتيجية مهمة تتطلب عملا عربيا مشتركا، فقد اتضح أن أحد معوقات التكامل هو صعوبة التواصل البري بين الدول العربية. تيسير ذلك سوف يعتمد على حالة الاستقرار العربي وإمكانية توفير البيئة الاستثمارية المواتية. بالنظر إلى الوضع العربي الراهن فإن مثل هذا الاستقرار لا يبدو ممكنا في الوقت الحاضر. في ضوء كل هذه المعوقات التاريخية أو الاقتصادية أو السياسية كما عرفها الدكتور محسن الندوي (2023) في ورقته «التكامل الاقتصادي العربي: المسار والتحديات»، فإن المسار الممكن اليوم هو أن يبدأ التكامل بعدد قليل من الدول الجاهزة على أن تلتحق الدول الأخرى كل وفق جاهزيته. من ناحية ثانية يمكن لدول الخليج بقيادة السعودية أن تبدأ بتشكيل هذه النواة والإسراع في تكاملها الخليجي الذي هو الآخر يسير ببطء ويحتاج إلى دفعة قوية تتغلب على المعوقات التي تعترضه. في جميع الحالات فإن التكامل العربي حلم الشعوب العربية الذي ينتظر توافق القيادات العربية وإصلاحات شمولية في جميع الميادين لكي يمكن أن يتحقق، لذلك نأمل أن تنجح جهود غرف التجارة في تحريك المياه الراكدة.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك