بعيدا عن تفاصيل توسيع مجموعة «بريكس» والفرص التنموية والمكاسب التجارية والنقدية التي ستحملها العضوية الكاملة اعتبارا من بداية 2024، ثمة أهمية سياسية وجيو ــ استراتيجية كبيرة لهذا التجمع ولدوره في النظام العالمي ولحضوره في بلدان الجنوب الممتدة عبر القارات الآسيوية والإفريقية والأمريكية اللاتينية ليس لها غير أن تتصاعد بعد انضمام مصر وإثيوبيا والسعودية والإمارات وإيران والأرجنتين إلى الأعضاء المؤسسين الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا.
من جهة أولى وقبل التوسعة، كان يعيش على أراضي دول «بريكس» ما يتجاوز 40 بالمائة من سكان الكرة الأرضية، وتسهم اقتصادياته بما يزيد على ثلث الناتج العالمي الإجمالي، ويدار ما يقرب من 60 بالمائة من تبادلاته التجارية بالعملات الوطنية وليس الدولار، وقدم «بنك التنمية الجديد» التابع له قروضا تنموية لدوله ولدول أخرى في الجنوب العالمي لم تقل عن 30 مليار دولار.
اعتبارا من 2024، سترتفع جميع هذه الأرقام في سياق انضمام الأعضاء الجدد وسيكتسب التجمع تنوعا جغرافيا بالانفتاح على منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي وجنوب أمريكا اللاتينية. بل إن تجمع «بريكس بلس» سيصير مع عضوية روسيا والسعودية وإيران والإمارات المورد الأكبر للطاقة في عالم اليوم.
نحن، إذا، أمام تجمع له قوة بشرية واقتصادية وتجارية كبرى ويتمتع بتنوع جغرافي حقيقي وبقدرات تنموية وثروات طبيعية هائلة. وعلى الرغم من ابتعاد أعضاء «بريكس بلس» بالحسابات الراهنة عن تطوير اندماج اقتصادي وتجاري ومالي مشابه للاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أو منطقة للتجارة الحرة كمنطقة «نافتا» التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، إلا أن مصادر قوتها وتنوعها وقدراتها تؤهلها لأن تكون تكتلا عالميا مؤثرا بشرط حضور حد أدنى من التنسيق السياسي والوعي الجيو ــ استراتيجي وتوافق إرادات الأعضاء على التطوير التدريجي للتعاون التنموي وللعلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية.
من جهة ثانية، وفيما خص شرط التنسيق السياسي، أظهر الأعضاء المؤسسون لتجمع «بريكس» خلال السنوات الماضية قدرتهم على العمل الدولي المشترك وعلى الانفتاح على بلدان الجنوب العالمي والإسهام البناء في تبني قضاياهم العادلة.
قادت الصين الدبلوماسية الدولية المطالبة بحل سلمي للحرب الروسية ــ الأوكرانية، والممتنعة عن إدانة أحادية للغزو الروسي للأراضي الأوكرانية دون اعتبار للتهديدات الواردة على مصالح وأمن روسيا التي مثلها انضمام محتمل لأوكرانيا لحلف الناتو، والرافضة للانصياع للعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على الاقتصاد الروسي. واشتركت الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا مع الصين في معارضة توظيف الغرب لمنصة الأمم المتحدة لإدانة روسيا، وفي تفنيد ازدواجية معايير الجانبين الأمريكي والأوروبي اللذين يريان في الغزو الروسي فعلا إجراميا يناقض مبادئ وقواعد القانون الدولي بينما يبرران الغزو والاحتلال والأبارتيد الإسرائيلي في فلسطين ويتنصلان من المسؤولية عن الدمار الذي سببه الغزو الأمريكي ــ البريطاني للعراق والغزو الأمريكي ــ الأوروبي لأفغانستان والتدخلات الغربية العسكرية في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي وغرب إفريقيا.
قادت الصين أيضا التجمع باتجاه التنسيق السياسي بين الدول الأعضاء للتخفيف من الآثار السلبية للحرب الروسية ــ الأوكرانية على بلدان الجنوب العالمي. وإذا كانت الحكومة الروسية قد عملت على إمداد الجنوب بالقمح والحبوب الأساسية الأخرى بأسعار مخفضة أو في إطار تبادلات بالمقايضة أو بقروض ميسرة لضمان أمنها الغذائي، فإن الحكومة الصينية هي التي اضطلعت بمبادراتها التنموية الكبرى مع الجنوب (الحزام والطريق) بالدور الأهم في مساعدة البلدان الأكثر فقرا ومحدودة الدخل على التعامل مع الأوضاع الاقتصادية السيئة المستمرة منذ جائحة كورونا والتي عمقت منها الحرب الروسية ــ الأوكرانية بارتفاعات أسعار الحبوب والطاقة ومعدلات التضخم غير المسبوقة.
توسعت الصين خلال السنوات الماضية في الإقراض التنموي لبلدان الجنوب وفي التبادل التجاري بالعملات الوطنية وفي الاستثمارات في مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة المتجددة في جوارها الآسيوي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومع أن الشروط المالية للقروض والاستثمارات الصينية في الجنوب قد تكون أكثر صعوبة من قروض المؤسسات المالية الدولية والحكومات الغربية، غير أنها قدمت وتقدم «شريانا لحياة» فقراء العالم في مرحلة تراجع ويتراجع بها اهتمام الغرب بهم.
كما إن الصين، ومعها الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، نشطت دبلوماسيا وسياسيا وفي سياقات مختلفة، إن داخل «بريكس» مع الدول التي كانت مراقبة وستصبح كاملة العضوية في 2024 أو داخل مجموعة الـ77 أو في المحافل الدولية كمنتديات التنمية والمناخ العالمية، للتعبير عن مصالح بلدان الجنوب العالمي ومطالبها العادلة فيما خص حقوقها التنموية والتعامل مع تداعيات التغير المناخي الذي لم تتسبب به وتتحمل كلفته والتعاطي مع تراكم ديون الجنوب وأزماته التجارية والمالية التي تستدعي حلا شاملا.
وحتما سيتصاعد هذا التنسيق الدبلوماسي والسياسي باسم بلدان الجنوب العالمي بانضمام دول كمصر وإثيوبيا والأرجنتين وهي ذات اهتمام تقليدي بتمثيل مصالح قاراتها وبالبحث عن حلول شاملة وعادلة لأزمات التنمية والديون والتجارة.
من جهة ثالثة، وفيما خص شرط حضور الوعي الجيو ــ استراتيجي لدى تجمع «بريكس» بكونه يمثل تكتلا عالميا يسعى إلى الحد من الهيمنة الكونية للغرب الأمريكي والأوروبي على الاقتصاد والتجارة والمال، فإن الخطاب الرسمي للأعضاء المؤسسين للتجمع ولبعض المنضمين الجدد يدلل على ذلك بوضوح.
للحكومتين الصينية والروسية خطاب رسمي يرفض الهيمنة الغربية على النظام المالي العالمي (مركزية الدولار الأمريكي وسيطرة الغرب على المؤسسات المالية الدولية والتبادلات البنكية من خلال نظام سويفت) ويبحث عن بدائل لها إن باعتماد العملات الوطنية في التبادلات التجارية داخل «بريكس» أو مع بلدان الجنوب أو بالتوسع في برامج المقايضة التجارية أو بتأسيس بنك «التنمية الجديد» حتى وإن تواضع رأسماله المعلن وتواضع أكثر ما جمع من الرأسمال هذا إلى اليوم.
أما الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا كأعضاء مؤسسين، ومعهم مصر وإثيوبيا والأرجنتين كأعضاء جدد، فلهم تاريخيا خطابٌ تحرري يسعى إلى تخليص الجنوب العالمي من الهيمنة الغربية ويمد الخط على استقامته بين السيطرة الاستعمارية للغرب على مقدرات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين والاستعمار الجديد الذي أسست له الولايات المتحدة منذ انتهت الحرب العالمية الثانية في 1945 وما لبثت تدافع عن استمراره بكل الوسائل الاقتصادية والتجارية والمالية، بل والسياسية والعسكرية والأمنية.
تعي هذه الدول جيدا، دون تورط في معاداة الغرب الذي تربطها به علاقات تعاون واسعة، الأهمية الجيو ــ استراتيجية للخروج من مصيدة الهيمنة الأمريكية والأوروبية من خلال تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للجنوب وتعميق التنسيق بين بلدانه لانتزاع حقوقها التي أهدرت تاريخيا بسبب ماضي وحاضر الاستعمار الغربي واستعادة شيء من العدالة للنظام العالمي.
ليس بغريب، إذا، أن تبتعد الحكومة الهندية عن عروض التحالف مع الولايات المتحدة التي تنهال عليها اليوم لجرها إلى التورط في مواجهة مع الصين وأن تخرج في مناسبات عدة (الهبوط الناجح على الجانب المظلم من القمر، وقمة «بريكس» الأخيرة في جوهانسبرج وإعلان توسع التجمع) بخطاب يموضع العملاق الآسيوي الصاعد داخل الجنوب العالمي كممثل لحقوق شعوبه وآمالها في التنمية والعدالة والتقدم. ليس بغريب، أيضا، أن يأتي الخطاب الرسمي للدول المنضمة حديثا الى «بريكس» المرحب بالانضمام إلى التجمع متطابقا في ترحيبه باسم الجنوب العالمي بالعضوية وفي تشديده على الحقوق التنموية والمطالب العادلة لبلدانه.
من جهة رابعة، وفيما خص مدى توافق إرادات أعضاء «بريكس» على التطوير التدريجي للتعاون التنموي وللعلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية بينها وكذلك بينها وبين بلدان أخرى في الجنوب العالمي، وبغض النظر عن الاندفاع الروسي السابق لأوانه للحديث عن «عملة موحدة ونظام نقدي مشترك» وعن التصريحات الصينية عن تشجيع تعاملات تجارية شاملة بغير الدولار وهي أيضا سابقة لأوانها، فإن الثابت اليوم هو رغبة الأعضاء المؤسسين والجدد في توظيف التجمع لمنازعة الهيمنة الأمريكية والأوروبية.
الصين، وهي المنافس الأكبر والأشرس للغرب، تريد قيادة تكتل عالمي مؤثر يدعم من قوتها وأوراقها الاستراتيجية وتقدم نظير ذلك مساعدات تنموية واسعة. أما روسيا، فتبحث عن الحد من تداعيات العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها بتطوير منظومة بديلة للعلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية وتحتاج في هذا الصدد إلى أعضاء «بريكس» بثقلهم الكبير.
بينما تعمل الهند ومعها الأعضاء الآخرون من ذوي الكثافة السكانية الكبيرة والمطالب التنموية المتصاعدة، على الحد من الانكشاف في إدارة شؤون الاقتصاد والتجارة والمال لما يمكن توصيفه بالاعتماد الأحادي على الغرب والمؤسسات المالية المدارة من واشنطن (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وتعظيم فرصها في التنمية المستدامة والشاملة.
أما الدول المصدرة للطاقة، فلها مصالح ترتبط إن بتقليل هيمنة الغرب للحصول على مزايا تنافسية أكبر أو بتحقيق استقلالية تجارة النفط والغاز الطبيعي عن هيمنة الشركات الأمريكية والأوروبية وسيطرة الدولار على مبادلاتها.
بحسابات اليوم، إذا، لسنا إزاء تجمع «بريكس» مع كيان مناظر للاتحاد الأوروبي ولا مع منطقة تجارة حرة كاملة تتطابق مع منطقة «نافتا» ويصبح من الخطأ، سياسيا وتحليلا، الحكم عليه بمعايير مستمدة من السباق الأوروبي أو الأمريكي الشمالي. بل نحن مع تجمع ذي قدرات تنموية واقتصادية وتجارية ومالية هائلة، وتنسيق سياسي متصاعد، ووعي واضح بالوزن الجيو ــ استراتيجي وبالدور في النظام العالمي، وتوافق الإرادات لجهة المزيد من التعاون بين الأعضاء المؤسسين والجدد وبينهم وبين بقية بلدان الجنوب الذين يدافعون عن حقوقها ومطالبها العادلة بعد أن سئمت شعوبها من الهيمنة الغربية ومن مراكمة الولايات المتحدة وأوروبا للثروات على حسابها ومن الاستدانة لمؤسسات وبنوك الغرب.
{ أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك