هناك مساران دوليان نادرا ما يلتقيان. الأول هو المسار الدولي المتمثل في منظمات وأجهزة الأمم المتحدة الرسمية التي تُجري المفاوضات الماراثونية العقيمة بين الدول للاتفاق على معاهدة دولية للتصدي لقضية محددة كالقضايا البيئية العامة والمشتركة بين كل دول العالم. وأما المسار والخط الثاني فهو أنشطة وبرامج الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تقع دائماً تحت هيمنة الدول الصناعية، وتسيطر على مجالس إدارتها وبؤرة اتخاذ القرار فيها شخصيات متنفذة وقوية من الدول المتقدمة والمتطورة التي تتحكم في قرارات الحكومات المتعاقبة، وتوجهها لتحقيق أهدافها ومآربها الاقتصادية الاستعمارية التوسعية.
وهذا الخطان المتوازيان يسيران جنبا إلى جنب، فخط منظمات الأمم المتحدة يسير ببطء شديد نحو تحقيق التوافق بين دول العالم لعلاج القضايا المشتركة، ومنها البيئية على سبيل المثال، ولكن دون التعرض أو المساس بمصالح حكومات الدول الصناعية الغنية وشركاتها العملاقة الثرية. وفي المقابل هناك خط شركات الدول الصناعية الكبرى المتقدمة التي تراقب من كثب جهود المنظمات الأممية وقراراتها، وتكوِّن في الوقت نفسه جماعات ضغط أممية داخلية وخارجية من كل التخصصات العلمية، والسياسية لتدافع عن مصالحها وبرامجها التنموية، وتسعى بشتى الوسائل والأدوات لتحقيق أمنها الاقتصادي وازدهارها المالي، كما تعمل هذه الشركات المتنفذة مع فرقائها على عدم المساس بمكتسباتها التنموية، وعدم التأثير في سير أعمالها وأنشطتها المستمرة وتجنب أية خسائر مالية قد تتعرض لها نتيجة للتوافقات الأممية.
والأمثلة السابقة التي تؤيد نظريتي كثيرة، وسأضرب لكم المثال الأخير الذي أراه أمامي اليوم، وأشاهد فصوله كاملة، والمتعلق باستخراج الثروات والخيرات الطبيعية العامة والمشتركة لكل دول العالم والواقعة في أعالي البحار خارج حدود المناطق الاقتصادية للدول، أي التي لا تخضع لسيادة أية دولة، سواء أكانت هذه الثروات على شكل معادن، أو حياة فطرية نباتية وحيوانية. وهذه الخيرات العامة المشتركة تكون قابعة على سطح التربة القاعية في المحيطات في المياه الدولية، وعلى أبعادٍ سحيقة في تلك المواقع البعيدة، والمظلمة، والشديدة البرودة والضغط المرتفع.
فعيون الدول الصناعية المتطورة وبوصلتها الحادة متجهة منذ أكثر من قرنين إلى كل ما في الأرض من ثروات طبيعية حية وغير حية، سواء أكانت موارد وخيرات خاصة بالشعوب في كل دولة وتقع تحت سيادة هذه الدول، أو الموارد والثروات الطبيعية العامة المشتركة التي لا تخضع لسيادة أحد، ولا تمتلكها أية دولة، وإنما هي مُلك لكل إنسان ودولة موجودة على كوكبنا.
ومن هذه الثروات العامة المشتركة هي ما تُخفيها أعماق المحيطات السحيقة من كنوز وثروات وتراث جيني حي، وموارد معدنية، وخيرات أخرى لا يعلم عنها أحد. ولذلك مرحلة استكشاف كنوز قاع المحيطات بدأت منذ زمنٍ بعيدٍ جداً، ومنذ أكثر من 200 عام، وأجريت الكثير من الدراسات الميدانية منها الدراسة الشاملة للمحيطات التي أُجريت من قبل علماء بريطانيين في الفترة من 1872 إلى 1876 على ظهر سفينة (HMS Challenger)، ثم مع تطور الأجهزة والمعدات الخاصة بسبر غور المحيطات، تسارعت واتسعت جهود البحث والاستكشاف، والتنقيب، والتعدين في قاع المحيطات، حتى إن الدول الصناعية الكبرى لديها الآن كم هائل من المعلومات حول قاع المحيطات وما في بطنها من ثروات معدنية وحيوية يمكن التنقيب عنها واستخراجها وتشغيل مصانعها وتنمية حياة شعوبها، كما فعلت في السابق في الثروات الموجودة فوق سطح الأرض وفي باطنها.
فمنذ هذه القرون الطويلة وشركات الدول الصناعية المتقدمة تخطو خطوات سريعة في مسار الاستكشاف والتعدين في سرية تامة، وتعبث في بيئة قاع المحيطات في مناطق أعالي البحار فساداً وتدميراً لا يعلم به أحد، كما إنها بدأت بالعمل فعلياً باستخراج هذه الثروات ذات الملكية المشتركة العامة لها وحدها ومن أجل استدامة تنميتها وتحسين حياة شعوبها. وكل هذه الجهود المستقلة للدول الصناعية وشركاتها لم تخضع لأية مراقبة أممية، ولم تحاسبها أية منظمة مختصة تابعة للأم المتحدة، بل وإن الدول الصناعية لم تقدم أية معلومات عن أنشطتها وبرامجها في أعالي البحار.
وأما المسار الثاني، وهو مسار منظمات الأمم المتحدة فقد بدأ متأخراً جداً، ولم يواكب التطورات التي شهدتها ساحة التعدين في أعماق المياه الدولية، حيث تم تأسيس هيئة خاصة تحت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لمتابعة أنشطة هذه الشركات العاملة في التعدين والتنقيب في أعالي البحار خارج حدود سيادة الدول وسلطتها، إضافة إلى وضع أنظمة وخطوط استرشادية لتقنين عملية التنقيب. وهذه الهيئة شبه الحكومية رأت النور في جامايكا في عام 1994 تحت مسمى «السلطة الدولية لقاع البحار» (International Seabed Authority). وهذه المنظمة الأممية كغيرها من الهيئات والمنظمات التي تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة ليست لها أية سلطة على الدول المتقدمة والصناعية المتنفذة، ولا تستطيع محاسبتها على أية مخالفة تقوم بها، كما أنها لا تمتلك الجهاز التنفيذي الفني للمراقبة والتفتيش على ما تقوم به الشركات العملاقة القوية في ظلمات الليل في أعماق المحيطات النائية على بعد قرابة ستة كيلومترات تحت سطح البحر. ولذلك تتحول هذه السلطة الأممية كشاهد زور على تجاوزات الدول، كما تعمل في الوقت نفسه كواجهة أممية شرعية تُحلل ما يرتكبه الكبار من الدول من استباحة وفساد للثروات العامة المشتركة.
واليوم بدأ تفعيل مسار الشركات الكبرى والدول الصناعية نحو المرحلة الأخيرة وهي الاستخراج التجاري، وأخذت الأنظار تتجه بشكلٍ خاص نحو منطقة مساحتها أكبر من 5 ملايين كيلومتر مربع موجودة في شمال شرق المحيط الهادئ، بين هاواي في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، وهي غنية بمعادن كثيرة على شكل عقيدات صخرية بحجم كرة التنس (polymetallic nodules)، منها الكوبلت والنيكل والنحاس والليثيوم والمنجنيز وعناصر الأرض النادرة. وهذه الكنوز الفطرية الثرية، وهذا النظام البيئي البِكْر على هيئة سهول تحت سطح البحر، يُعرف بمنطقة (clarion-clipperton zone)، وهي قابعة في تربة القاع على عمق يتراوح بين 4000 إلى 6000 متر في المحيط الهادئ.
فقطار التعدين واستخراج الثروات بدأ يسير في وضح النهار بحجة توفير المعادن اللازمة للمجتمع الإنساني لبناء الاقتصاد النظيف والمتجدد للسيارات الكهربائية، والهواتف وأجهزة الكمبيوتر، وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، وبالفعل حصلت الشركات العملاقة على الغطاء الشرعي الدولي من السلطة الدولية لقاع البحر، حيث مَنَحتْ 30 ترخيصاً رسمياً لعمليات الاستكشاف، وهذه العمليات سيصحبها تدمير شامل لهذه البقعة العذراء والبكر من كوكبنا.
فتشير الدراسات إلى أن هناك أكثر من 6000 نوع من الأحياء النباتية والحيوانية المخزنة للبشرية جمعاء في تلك المناطق الشاسعة، وأن العلماء تعرفوا فقط على 436 نوعاً منها. وعمليات التعدين التي تُستخدم فيها سفن عملاقة يزيد طولها على 250 متراً، وعليها معدات وآليات الحفر والشفط الضخمة التي تزن أكثر من 6 أطنان وتسبب تلوثاً ضوئياً وضوضائياً، كما لا بد وأنها ستحدث تدميراً هائلاً للبيئة القاعية، وتوقع زلزالاً شديداً يغير كلياً من سطح هذه البيئة المنتجة، وتسبب موتاً جماعياً للكثير من الأنواع المجهولة والنادرة والفريدة من نوعها، والتي تمثل خسارة لا رجعة لها للتراث الجيني الحي فتختفي كلياً من الأرض. وهذا التدمير ليس «موقعياً»، أي في موقع العملية فقط، وإنما ينتقل إلى مسافات طويلة أفقياً ورأسياً، فالسحب البيضاء وحبيبات الرمل والمعادن الصغيرة التي تنتج من الحفر والشفط تدخل في عمود الماء، وتنتقل إلى مسافات طويلة خارج الموقع فتضر بالأحياء الموجودة في طريقها.
كذلك فقد أكدت الدراسات أن هذه العقيدات الصخرية تحتوي أيضاً على عناصر مشعة طبيعياً كاليورانيوم، ومع تحلل اليورانيوم تنبعث أشعة ألفا المسببة للسرطان، إضافة إلى عناصر مشعة أخرى ناجمة من التحلل، كالثوريم، والريديوم، والرادون. وهذه الإشعاعات تسبب مشكلات صحية للعاملين في هذه المهنة، حسب الدراسة المنشورة في مجلة «تقارير علمية» (Scientific Reports) في 17 مايو 2023 تحت عنوان: «إشعاع جسيمات ألفا من قاع المحيطات الذي يحتوي على المعادن والمخاطر الصحية للتعدين في أعماق البحار».
وختاماً فإن مسار الدول المتقدمة وشركاتها يجري سريعاً، وعلى حساب كل شيء نحو استغلال ثروات وموارد الأرض في البر، والبحر، والفضاء، والكواكب، ومسار منظمات الأمم المتحدة يمشي بطيئاً ولا يمكنه اللحاق بمسار الشركات القوية، ولا يمكنه السيطرة عليها وتنظيم تنقلها وحركتها، ولذلك فهما لا يلتقيان في معظم الحالات.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك