إذا عرفنا قصة الاستعمار القديم وتفاصيله وبواعثه وأسبابه ونتائجه على البلدان التي تم استعمارها يكفينا أن نرى الوضع الحالي الذي تعاني منه معظم الدول الإفريقية المستعمرة من قبل الاستعمار الفرنسي فأغلبها تعاني على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية مع إن هذه الدول تمتلك من الثروات المعدنية والموارد الطبيعية الكثير والكثير.
لقد استطاع الجيل السابق من الأفارقة بعد نضال طويل وخسائر بشرية لا تحصى ولا تعد أثناء فترة النضال والكفاح ضد الاستعمار الفرنسي تحديدا أن تحصل هذه الدول على استقلالها السياسي ويتجاوز عدد هذه البلدان التي كانت ولا يزال أغلبها تحت المظلة السياسية والاقتصادية والثقافة الفرنسية أكثر من 15 دولة لكن خروج الاستعمار الفرنسي من معظم هذه البلدان كان غير كامل فإن كانت القوات الفرنسية قد غادرت أراضي هذه البلدان وأصبح لهذه الدول كيانها وعلمها وسيادتها على الأرض فإن الاستغلال الفرنسي استمر إلى يوم الناس هذا ومن الأمور اللافتة أن فرنسا وبعد خروجها من هذه الدول قبل أكثر من 60 سنة أو أكثر لا تزال مهيمنة ومسيطرة على موارد هذه البلدان من معادن نفيسة وفوسفات وذهب ويورانيوم والتي تديرها إلى اليوم الشركات الفرنسية لصالح الدولة الفرنسية وهي عملية نهب منظمة يتم تغطيتها بالعلاقات الخاصة بين هذه البلدان والمستعمر السابق أي المستغل الحالي.
والأسوأ من ذلك أن عددا من هذه البلدان قد فرضت فرنسا عليها ما يسمى بالفرنك الأفريقي الذي يطبع في البنك المركزي الفرنسي وغير قابل للصرف إلى عملة أخرى إلا ضمن الدائرة التي يرسمها البنك المركزي الفرنسي مع العلم بأن العملة الوطنية علامة من علامات السيادة مثل العلم واللغة مما يؤشر بأن هذا الاستقلال ناقص وغير مكتمل.
وفي ضوء هذا النهب الممنهج والمستمر سنوات طويلة نشا الجيل الجديد من أبناء هذه المستعمرات من المتعلمين والمثقفين والضباط الذين بدأوا يشعرون بأن هذه العلاقة غير متكافئة مع فرنسا لا يمكن أن تتواصل على هذا النسق الاستغلالي الذي يعد سببا من أسباب فقر هذه البلدان وتأخرها الاقتصادي والاجتماعي في مقابل وجود ثروات إفريقية ضخمة يمكن إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل أن ينقل حياة هذه الدولة نقلة نوعية كاملة من التخلف إلى التقدم ومن الفقر إلى الغنى فإفريقيا اليوم هي المزود الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن والفوسفات إذ تضخ الدول الإفريقية وخاصة النيجر ومالي أكثر من 25% من احتياجات فرنسا من مصدر الطاقة النووية أي اليورانيوم كما تستولي فرنسا وشركاتها على حقول النفط وعلى مناجم الذهب في معظم هذه البلدان كما تضع يدها منذ زمن طويل على بعض هذه المعادن النادرة والنفيسة ويمكن أن تقدر بأكثر من 80% من موارد وثروات هذه البلدان الإفريقية يتم استغلالها من قبل فرنسا أو بإشرافها كذلك عمليات تعدين الذهب يتم تحت إشراف وسيطرة فرنسا ومن المؤسف أن هذه العمليات لا تزال متواصلة إلى اليوم من دون توقف وهذا ما يفسر الغضب الفرنسي والخوف الفرنسي من أي تغير في هذه البلدان يمس نفوذها وسيطرتها الاقتصادية والسياسية.
إن الجيل الجديد من السياسيين والمثقفين والضباط العسكريين في القوات المسلحة في أكثر دول إفريقيا مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو والغابون ومالي وغيرها بدأوا العمل على الخروج من دائرة السيطرة والاستغلال الفرنسي وأصبحوا يتحدثون علانية وبكل صراحة عن ما بات يسمى بالاستقلال الثاني للبلدان الإفريقية وذلك لأن الاستقلال الأول لم يكن كاملا بل كان شكليا في بعض الأحيان وهذا ما يفسر ظهور عدد من الانقلابات العسكرية في عدد من البلدان الإفريقية تحت عنوان واحد وهو الخروج من تحت الهيمنة الفرنسية والاستغلال الفرنسي وبغض النظر عن النتائج المباشرة واللاحقة لمثل هذه الانقلابات وحظوظها في النجاح والاستمرار فإنها كانت عنوانا واضحا مرفوعا في وجه فرنسا، ذلك أن شعوب هذه البلدان لم تعد قادرة ولا قابلة لاستمرار هذا النهب المنظم وقد زاد من قوة هذا التحول الجديد ظهور منافسين جدد أقوى خاصة في دول الساحل وجنوب الصحراء مثل جمهورية الصين الشعبية وروسيا الاتحادية وحتى الولايات المتحدة الأمريكية كما أصبح من الصعب على فرنسا ضمان استمرار حضورها العسكري في هذه المنطقة لارتفاع التكلفة وضعف مردوده على الأرض مع وجود العداء لفرنسا ولكل ما هو فرنسي من قبل الجماهير الشعبية في هذه الدول والتي أصبحت تتظاهر علنا ضد الحضور الفرنسي السياسي والدبلوماسي والعسكري مثلما رأينا في النيجر بوجه خاص ولذلك يبدو أن النفوذ الفرنسي الذي استمر أكثر من ستة عقود بعد استقلال هذه الدول في طريقه إلى نهايته المحتومة مهما كانت نتائج هذه الانقلابات ومهما امتلكت فرنسا من القوة ومهما هددت باستخدامها ضد قادة الانقلابات في هذه البلدان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك