هناك كثير ممن لا يستوعب، ولا يهتم، ولا يُقدر حجم الضرر الكبير الذي ينجم عن غزو كائن حي أجنبي وغريب، نباتيا كان أم حيوانيا، أم كائنات مجهرية دقيقة، للبيئة الجديدة غير الفطرية التي يدخل فيها ويستوطنها، فتقديرات آخر تقرير للأمم المتحدة حول الخسائر الاقتصادية للغزو الحيوي وصلت إلى قرابة 423 بليون دولار سنويا على المجتمع الدولي برمته، حيث نُشر هذا التقرير الحديث من «الهيئة شبه الحكومية للعلوم والسياسات في مجال التنوع الحيوي وخدمات النظم البيئية» في 4 سبتمبر 2023 تحت عنوان: «تقرير التقييم المواضيعي حول الأنواع الغازية الغريبة ومكافحتها».
ولذلك أُقدم لكم بعض الأمثلة الحية والواقعية لكي أُبين لكم الآثار الخطيرة، والتهديدات العميقة التي تنتج عن ظاهرة غزو الكائنات الأجنبية الغريبة على النظام البيئي العام في تلك المنطقة، وعلى أمن وسلامة الكائنات الحية الفطرية وعلى الإنسان على حدٍ سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن.
ففي بعض الأحيان نسمع عن هروب وغزو حيوان مفترس كالأسد، أو النمر، أو دب، أو غيرها من الحيوانات من حديقة للحيوانات، أو من منزل ومزرعة شخصٍ له هواية تربية مثل هذه الحيوانات التي تهدد أمن وسلامة الإنسان. وفي مثل هذه الحالات المستعجلة تُعلن حالة الطوارئ الأمنية في المنطقة، وتُستنفر القوات الأمنية مدججة بالسلاح للقبض عليها حياً أو ميتا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الحيوانات قد دخلت وتوغلت في بيئة غير بيئتها الفطرية الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيها، فتعيش في توازن دقيق وتعايش مع باقي الحيوانات الأخرى ضمن السلسلة الغذائية الطبيعية في ذلك النظام البيئي، ولكن وجود هذا الحيوان المفترس في بيئة حضرية، أو بيئة غريبة لم توجد فيها طبيعياً وفطرياً يمثل تهديداً خطيراً للإنسان، وباقي الحيوانات الأخرى، ويشكل هدماً كلياً للنظام البيئي والسلسلة الغذائية في تلك المنطقة.
فمثل هذه الحالة إذا وقعت سيستشعر تهديداتها كل إنسان، وكل الكائنات الحية الأخرى، ولكن هناك حالات غزوٍ مشابهة تحدث في البيئات المائية السطحية، كالأنهار، والبحيرات، والمحيطات، وتمثل خطراً مزمناً لتلك البيئات والحياة الفطرية فيها، ولكننا كبشر عاديين غير مختصين لا نحس بخطورتها، ولا نستشعر تهديداتها لأنها غير مرتبطة مباشرة بحياتنا اليومية على المدى القريب، ولا نحسب أضرارها الاقتصادية والاجتماعية إلا بعد أن يستفحل الأمر، وتتفشى في كل شرايين تلك البيئة، وتتوسع دائرة تأثيراتها على نطاق جغرافي واسع، فتظهر فوق السطح كأزمة واقعية مشهودة تمس حياة الناس ومعاشهم ومعيشتهم، فلا يمكن عندئذٍ تجاهلها، أو غض الطرف عنها.
ومن أكثر الأمثلة شيوعا وتأثيرا على البيئة والحياة الفطرية والإنسان في الأنهار والبحيرات هي غزو ودخول سمكة الكارب الفضية اللون الأجنبية إلى بيئة نهر مسيسيبي الأمريكي التي لا توجد فيها فطرياً وطبيعياً، فمثلها كمثل دخول الأسد في بيئتنا من ناحية التداعيات الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. فهذه السمكة الضخمة التي يصلها طولها إلى مترٍ واحد، ووزنها إلى أكثر من 60 كيلوجراماً، مقارنة بأسماك نهر المسيسيبي الوادعة والصغيرة نسبياً، أُدخلت بحسن نية وطواعية في البيئة الأمريكية قادمة من بيئتها الأصلية الفطرية في شرق آسيا، ووُضعت في الأحواض السمكية لتصفية المياه وتنقية مياه هذه البرك. ولكن مع الوقت فلتت هذه السمكة من موقعها الأصلي المحجوز، فتسربت مع مياه الفيضانات من هذه الأحواض النهرية، وانتقلت إلى بيئة جديدة عليها كلياً، فتكاثرت من دون منافس بشكلٍ كبير وبأحجام عملاقة افترست معظم الأسماك التجارية التي يعيش عليها الناس، وعملت أزمة غذائية للأسماك المحلية المستوطنة طبيعياً وتسببت في إخلال التوازن البيئي في تلك المياه العذبة، حتى إنها مع الوقت توغلت فعبرت واخترقت الحدود المائية وانتقلت يوماً بعد يوم من بيئة النهر إلى القنوات المائية ثم أخيراً إلى بيئة البحيرات العظمى في أمريكا وكندا. وهناك هددت بالفعل الثروة السمكية فيها، والأمن الغذائي للمواطنين. فهذه الحالة دقت ناقوس الخطر في الولايات المتحدة الأمريكية برمتها، فاستنفرت الخبراء والمختصين من رجال العلم، والسياسة، والقانون، حتى المهندسين في الجيش الأمريكي، لمكافحة هذه الآفة السمكية الفتاكة بشكلٍ شامل وجذري، فأنفقت أمريكا المليارات من الدولارات على مدى سنواتٍ طويلة للحد من أعدادها وانتشارها، واتخذت الإجراءات الحاسمة والقاتلة للتخلص منها كلياً في بيئة المسطحات المائية في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرغم من كل هذه النفقات الباهظة، والجهود الكبيرة المضنية لسنوات عجاف طويلة، وبالرغم من الحلول المبتكرة واستخدام التقنيات الحديثة وكل أنواع الأسلحة، إلا أنها لم تنجح حتى اليوم من استئصالها من بيئة النهر والبحيرات.
وهناك مثال حي آخر أضربه لكم لأُقدم التداعيات الاقتصادية والأمنية الناجمة عن إدخال أحد أنواع الأعشاب والحشائش إلى بيئة جديدة غير بيئتها الفطرية الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيها. فالجميع شاهد كارثة حريق هاواي العظمى في أغسطس 2023، والتي أودت بحياة 115 إنساناً، وقضت على مساحات واسعة من الأرض، وأتلفت ودمرت المرافق العامة السكنية والتجارية، وكلفت الولاية خسائر مالية تقدر بالمليارات. وتفيد الدراسات، مثل الدراسة المنشورة في مجلة «المحيط البيئي» (ECOSPHERE) في 8 مارس 2023 إن هذه الأعشاب والحشائش الطويلة الحجم والشديدة والسريعة الانتشار، وبالتحديد من نوع (Guinea grass) بدأت تظهر في معظم غابات هاواي، وتتميز بأنها سريعة الاشتعال، ولذلك كانت وقوداً ممتازاً وقوياً للحريق الذي نشب في مدينة ماياي (Maui) والتهم مرافقها بسرعة غير متوقعة. كما أكدت الدراسة على أن هذه الحشائش الغريبة والأجنبية تم إدخالها من بيئة إفريقيا إلى بيئة جزر هاواي في القرن المنصرم، ومع الوقت نمت وترعرعت في هذه البيئة الجديدة على حساب النباتات الفطرية الأصيلة المستوطنة، وأخذت تزحف بسرعة فائقة في غابات هاواي، ما سهل نشوب الحريق وانتشاره في مناطق واسعة.
وفي بلادنا أستطيع أن أُقدم لكم مثلاً يشهده الجميع من عالم الطيور الغازية والدخيلة، فمن المعروف الآن لدى الجميع أن الغراب غزا بيئتنا عن طريق سفن الشحن أو غيرها من الطرق، وهذا الطائر الأجنبي بدأ في القضاء على طائر البلبل المغرد الوطني الفطري في بلادنا ويهدده بالانقراض، كما تنطبق هذه الحالة على طائر المينا الذي لم يكن جزءاً من طيور بيئتنا الأصلية.
ولذلك فقضية الأنواع الغازية والغريبة واقعية وملموسة وانعكاساتها تجاوزت البعد البيئي لتصل إلى البعد الاقتصادي، والاجتماعي، والأمني. وهذا التقرير الأممي الأخير الذي يُعد امتداداً وتحديثاً للتقرير السابق المنشور عام 2019، ركز على الجانب الاقتصادي لهذه الظاهرة العالمية المشتركة، كما أكد التقرير أن هناك زهاء 37 ألف كائن حي دخيل وأجنبي موجود حالياً على كوكبنا، وأن الدراسات قد وثقت أضرار وتأثيرات قرابة 3500 نوع منها.
فكل هذه التقارير والدراسات العلمية من المفروض أن تُوجه أنظارنا واهتمامنا نحو هذه القضية التي تدخل ضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ونعمل على تجنب وقوعها في بلادنا من خلال منع دخول أي كائن حي دخيل وغريب، والتحقق من هويته، ونوعه، ودوره في البيئة المحلية.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك