على الرغم من أهمية الاتفاقيات التي تنظم الحدود بين الدول فإن الاتفاقيات ذات الصلة بالحدود البحرية تظل أكثر إثارة للجدل من دون غيرها من الحدود البرية، فإذا كانت الأخيرة محددة بنقاط واضحة فإن الحدود البحرية للدول بها عديد من الإشكاليات وتكمن المعضلة الكبرى لتلك الحدود في كونها مياه ذات مساحات كبيرة وبالإمكان السيطرة عليها من جانب هذا الطرف أو ذاك، ولست بصدد الحديث عن القانون الدولي الذي ينظم تلك الحدود وتعبر عنه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي صدرت عام 1982 بعد جهود دولية مضنية ومناقشات ممتدة لعقود بين الدول من أجل إقرار تلك الاتفاقية لتنظيم الحقوق البحرية للدول إلا أنه تلزم الإشارة إلى أن تلك الاتفاقية تتضمن أربعة أنواع من الحقوق للدول أولها المياه الإقليمية للدولة وتمتد نحو 12 ميلا بحريا وتعد جزءا لا يتجزأ من إقليم الدولة وتمارس عليها كامل سيادتها ولا تلتزم تجاه الدول الأخرى سوى ما يعرف «بحق المرور البريء للسفن» إذا لم يكن متعارضا مع مصالح الدولة، وثانيها: المنطقة المتاخمة وتمتد أيضاً لمسافة 12 ميلا بحريا وللدولة عليها أيضا سيادة ولكن بدرجة أقل من المنطقة الأولى، وثالثها: المنطقة الاقتصادية الخالصة وتمتد نحو 200 ميل بحري وللدولة الحق في استغلال بعض الثروات فيها ولكن ليس سيادة مطلقة، ورابعها: أعالي البحار وهي ما تبقى من التقسيم السابق للمياه ويعد حقا للدول كافة ولا توجد ضوابط من شأنها تنظيم ممارسات الدول في تلك المنطقة والتي يطلق عليها المياه الدولية.
وعلى الرغم من أهمية تلك الاتفاقية كإطار قانوني دولي ينظم الحقوق البحرية للدول فإن المعضلة ليست في الإطار القانوني ولكن في الواقع العملي وممارسات الدول والتي تعكسها ثلاثة مؤشرات مهمة، المؤشر الأول: كغيرها من الاتفاقيات الدولية فإن اتفاقيات الحدود تمر بمراحل ثلاث وهي التوقيع والتصديق والانضمام، صحيح أن توقيع الدولة على الاتفاقية الدولية خطوة مهمة إلا أنه يجب أن يتبعه تصديق من جانب السلطات المعنية ومع وضوح تلك الخطوات فإن بعض الدول لا تزال تتذرع بأنها وقعت على تلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ولكنها لم تصادق عليها بما يعنيه ذلك من عدم التزامها بأي التزامات تضمنتها الاتفاقية وتلك إشكالية كبرى تجعل انضمام الدول لتلك الاتفاقيات انضماماً صورياً فحسب، بل إنه مما يزيد من الأمر تعقيداً إعلان بعض الجهات القضائية في دولة ما إلغاء انضمام الدولة إلى اتفاقية ملزمة ذات صلة بالحقوق البحرية للدولة بما يعني عودة المفاوضات بين الدولتين إلى المربع الأول، أما المؤشر الثاني: فإن الاتفاقية بالرغم من كونها تضمنت إيضاحاً للحقوق البحرية للدول ولكن من دون حل النزاعات البحرية ذاتها، صحيح أن هناك حالات تمت تسويتها من خلال اتفاقيات ملزمة ولكن لا تزال هناك خلافات حدودية وتعلن الدول أنها تقوم باحتساب مياهها الإقليمية من تلك المناطق التي تحتلها، بينما يتمثل المؤشر الثالث في أنه إذا كانت للدول القدرة على السيطرة على مياهها الإقليمية وكذلك المنطقة الاقتصادية الخالصة فإن الأمر لا يبدو كذلك في أعالي البحار فعلى الرغم من موافقة عدد من الدول على اتفاقية الأمم المتحدة «المعنية بالتنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج نطاق الولاية الوطنية» في مارس 2023 والتي تعد إنجازاً مهماً لحماية البيئة في المياه الدولية ويتوقع أن يتم التوقيع عليها خلال العام الحالي فإن المعضلة تتمثل في عدم إعلان كل دول العالم حتى الآن موافقتها على تلك الاتفاقية حتى وفي حال التوقيع ما الضمانات التي تحول دون استمرار ممارسات بعض الدول في إلقاء النفايات ومنها النووية في أعالي البحار.
وإذا كان ذلك هو الإطار الدولي فأي تأثير للنزاعات البحرية على الأمن الإقليمي؟ في تقديري إن منطقة الشرق الأوسط تواجه تحديات أكثر من غيرها بشأن نزاعات الحدود البحرية لخمسة أسباب الأول: إن السنوات الماضية شهدت محاولات نقل الصراعات إلى البحار سواء من جانب بعض الدول أو الجماعات من دون الدول في محاولة لاستغلال عدم وجود سلطة دولية تلزم الدول باحترام الحقوق المشار إليها وقدرتها على استهداف أمن الدول الأخرى بأقل تكلفة ممكنة وهو ما حدث خلال الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج العربي غير ذي مرة، والثاني: احتواء الحدود البحرية على ثروات سواء النفط أو الغاز بما يجعلها محوراً للصراعات الإقليمية ولعل المثال الأبرز على ذلك الصراع في شرق المتوسط، وثالثها: تأثير التكنولوجيا الحديثة على طبيعة صراعات الحدود البحرية وخاصة استهداف منصات النفط في تلك الحدود من خلال الطائرات من دون طيار «الدرونز»، ورابعها: إن تهديدات الأمن البحري بسبب عدم قدرة بعض الدول على حماية حدودها البحرية من شأنها أن تعيد تشكيل توازن القوى الإقليمي بل تكون سبباً للتنافس الدولي ومن ذلك حالة الصومال التي واجهت مخاطر القرصنة سنوات عديدة ما دفع المجتمع الدولي إلى التدخل لمواجهة ذلك الخطر وربما في بعض الأحيان بما لا يتناسب مع طبيعة الخطر من حيث السفن الحربية الكبيرة التي توجد بالقرب من الممرات المائية الحيوية، وخامسها: إن اندلاع أي مواجهة بحرية بين أطراف متنازعة ستكون اختباراً حقيقياً لقوة أي دولة، ففي الوقت الذي تلاشت فيه تهديدات الحدود البرية بالنظر إلى التطور التكنولوجي الهائل وإمكانية إجهاض أي محاولة لتقدم قوات برية نحو دولة أخرى فإن المساحات الشاسعة للبحار تتيح ممارسة أي تهديدات بل وتوظيف التكنولوجيا الحديثة على نحو يهدد الأمن البحري للدول.
وفي تقديري إن دول الخليج العربي يتعين عليها السير في ثلاثة مسارات متوازية بشأن تأمين حدودها البحرية الأول: تسوية كل الخلافات الحدودية البحرية عبر التفاوض لكونها تمثل تحدياً للأمن القومي، والثاني: ضرورة بل حتمية تطوير القدرات البحرية بالاستفادة من التطور التكنولوجي الهائل في مجال تأمين المنصات البحرية وكذلك ناقلات النفط، والثالث: تطوير الشراكات الإقليمية والدولية التي تضمن الحفاظ على الأمن البحري بما يحقق الحفاظ على الحدود البحرية.
ولعل المتتبع لمسار الأحداث في منطقة الخليج العربي يمكنه التوصل لنتيجة مهمة مفادها إن الصراعات الإقليمية شهدت توظيفاً للبحار بشكل كبير الأمر الذي كان سبباً في تأسيس تحالفات للحفاظ على توازن القوى الإقليمي من ناحية وحماية الممرات البحرية وناقلات النفط من ناحية ثانية، ومع أهمية ذلك فإنه لا مناص من ضرورة وجود اتفاقيات قانونية ملزمة بين الدول تتضمن تحديد الحقوق البحرية لكل منها حتى لا تكون النزاعات البحرية مقدمة نحو مواجهات ستكون القوى الإقليمية والعالمية أطرافاً فيها دون شك.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك