وجهت «جائحة كورونا» عام 2020، ضربة قوية لصناعة السياحة العالمية، التي مثلت وفقًا للبنك الدولي في 2019، أكثر من 10% من الاقتصاد العالمي، بقيمة تزيد على 9 تريليونات دولار. ومع تطبيق إجراءات الإغلاق، وتقييد حركة السفر في معظم دول العالم، انخفض السفر السياحي، بنسبة 65% في الأشهر التالية، مع معاناة كبيرة لاقتصادات البلدان التي تعتمد عليه بشكل كبير.
وعلى الرغم من ذلك، تعافت السياحة الدولية، «تدريجيا». وفي حين ارتفعت بنسبة 5% فقط في عام 2021، فقد تضاعف عدد المسافرين في 2022، إلى 64% من مستويات ما قبل الوباء. ووفقًا لـ«منظمة السياحة العالمية»، استمر هذا النمط من التحسن حتى عام 2023، مع استعادة 80% من مستويات ما قبل الجائحة بحلول نهاية الربع الأول من العام الحالي.
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، أشارت «المنظمة»، إلى أنها «رصدت أقوى أداء للمنطقة في جذب سياح جدد». ووصفتها «مايتيري داس»، من بنك «إتش إس بي سي»، بأنها «الأولى بالعالم تعافيًا من آثار الوباء». ومع ارتفاع معدلات السياحة في المنطقة بنسبة 15%، لتتجاوز مستويات عام 2019، كان دور دول الخليج في استقبال المزيد من الزوار «جديرًا بالملاحظة». وعملت دول، مثل «السعودية»، و«الإمارات»، و«قطر»، على تعزيز قطاعاتها السياحية، كجزء أساسي من أهداف التنويع الاقتصادي. ومع إشارة الخبراء إلى ظهور أسواق جديدة ناشئة للسفر الدولي، خاصة في آسيا، يجري ترسيخ المنطقة كمحور مركزي للسياحة العالمية.
وفي ضوء سعي دول الخليج للتحول من الاعتماد على صادرات المواد الهيدروكربونية، إلى مصادر الطاقة المتجددة؛ فقد تبنت تدابير طموحة لتنويع اقتصاداتها. وبالإضافة إلى قيادة الجهود الدولية للبحث والتطوير واستخدام موارد الطاقة الخضراء، قامت بإصلاحات مالية، ودفعت إلى تعزيز صناعة الترفيه، والثقافة والرياضة محليًا؛ بغية تحقيق مستويات قياسية في معدلات السياحة.
ولعل أبرز مثال على ذلك، هو «رؤية السعودية 2030»، التي وصفها «جوناثان بانيكوف»، من «المجلس الأطلسي»، بأنها «جهد جبار لتحقيق النهضة في الخليج». فيما تبنت «الإمارات»، رؤيتها الاقتصادية طويلة المدى، وانتهجت «البحرين» ذات المسلك. وفي مايو 2023، كشفت «سلطنة عُمان»، عن صندوق استثمار عام بقيمة 5 مليارات دولار لدعم التنويع الاقتصادي.
وعليه، فقد أصبح الترويج للسياحة في المنطقة، «ركيزة أساسية»، لهذه الرؤى طويلة المدى. وفي حين أن بعض مدن الخليج، مثل «دبي»، و«أبوظبي»، أضحت بالفعل، «مراكز سياحية عالمية»؛ فقد أشار «تشارلز فيليبس»، من «معهد دول الخليج العربية»، إلى مدى أهمية تعزيز معدلات السياحة، باعتبارها «محورًا أساسيًا لرؤية المملكة 2030».
وعلى وجه الخصوص، تسعى «الرياض»، إلى الاستفادة من «المواقع التراثية، والمناظر الطبيعية المتنوعة»؛ من أجل «جذب السياح الدوليين، وزيادة عدد السياح المحليين»، حيث تهدف إلى جذب 100 مليون زائر سنويًا، بحلول نهاية الجدول الزمني لمشروع «رؤية 2030». وفي عام 2023، أسس «صندوق الاستثمارات العامة» في المملكة، شركة جديدة للاستثمار السياحي باسم (أسفار)؛ لمواصلة نمو قطاع السياحة. وأشار «مشاري الإبراهيم»، من «الصندوق»، إلى أن تأسيس هذه الشركة يتماشى مع «استراتيجية خلق الفرص في قطاع السياحة، وتنويع مصادر الدخل للاقتصاد المحلي».
وبالفعل، كان احتضان صناعة الترفيه، والرياضة، «جزءًا مهمًا»، في إطار هذا التوجه. وبالإضافة إلى استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، مثل سباقات السيارات (مع حضور 143 ألف مشجع لسباق الفورمولا 1 في جدة عام 2021)، استثمرت «السعودية»، أيضًا في دوري كرة القدم المحلي. ومع جلب بعض ألمع الأسماء في هذه اللعبة عالميا؛ عززت الرياضة أيضًا من أنواع السياحة الأخرى. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، كيف أن منشورات اللاعب الأرجنتيني «ليونيل ميسي»، على موقع «إنستغرام»، التي تروج لمواقع قضاء العطلات، قد منحت رؤية واضحة عن المملكة لـ«متابعيه»، الذين يبلغ عددهم حوالي 470 مليون متابع عبر حسابه.
وبشكل عام، ينعكس الترويج للسياحة في منطقة الشرق الأوسط في أحدث البيانات الدولية الصادرة عن هذا القطاع. وسجل تقرير «إتش اس بي سي»، لشهر أغسطس2023، زيادة بنسبة 15% في عدد زوار المنطقة، خلال النصف الأول من العام الحالي، مُقارنة بأعدادهم عام 2019، مضيفا أن المنطقة شهدت «أقوى أداء من حيث انتعاش السياحة، مقارنة بأي بقعة أخرى في العالم».
ويعد دور دول الخليج في هذا النمو «ملحوظًا». وكتبت «داس»، إن «قطر»، و«السعودية»، هي من الوجهات الأفضل أداءً على مستوى العالم، من حيث وصول السياح في الربع الأول من عام 2023». واستقبلت «الرياض»، 7.8 ملايين سائح في الربع الأول من عام 2023 وحده، بنمو قدره 64% عن مستويات عام 2019. فيما نمت إيرادات السياحة بنسبة 225%، مقارنة بعام 2022 لتصل إلى ما يقرب من 10 مليارات دولار.
علاوة على ذلك، استقبلت «دبي»، 8.55 ملايين زائر ما بين يناير ويونيو 2023؛ أي أكثر بـ190 ألفًا من عدد الزوار في الفترة نفسها من عام 2019. ومن بين هذه الأرقام، كان 20% من أوروبا الغربية، و7% من الولايات المتحدة. في حين استضافت «قطر»، بطولة كأس العالم لكرة القدم بين نوفمبر وديسمبر 2022، وواصلت الاستفادة من الإرث السياحي للبطولة، التي اجتذبت أكثر من مليون متفرج. وأوضح موقع «ميدل إيست مونيتور»، أن الدوحة استقبلت 2.56 مليون زائر بين يناير وأغسطس 2023، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 157% عن نفس الفترة من العام السابق.
وبالنسبة إلى عام 2023، يتوقع المسؤولون القطريون قفزة بنسبة 347% في عدد الوافدين الأجانب.
وبالإضافة إلى ذلك، ازدهرت السياحة في «البحرين»، خلال هذه الفترة. وخلال النصف الأول من عام 2023، أشارت مجلة «كاتيرير»، إلى أن «المنامة»، استقبلت 5.9 ملايين زائر، بزيادة قدرها 51% عن عام 2022. وتماشيًا مع ذلك، تم تسجيل زيادة بنسبة 48% في إيرادات السياحة الوافدة، لتصل إلى 2.5 مليار دولار. وعلى وجه الخصوص، ارتفع عدد الزوار من الرحلات اليومية، بنسبة 43%، ليصل إلى 3.3 ملايين.
وعلى الرغم من أن دول الخليج، هي «المحرك الرئيسي»، لزيادة أرقام السياحة إلى الشرق الأوسط؛ فقد أشار «إتش إس بي سي»، إلى حدوث قفزة في عدد الزائرين إلى «تركيا»، التي تحتل الآن المرتبة الرابعة إقليميًا من حيث عدد السياح بزيادة قدرها 104% عن العام الماضي. وأضافت مجلة «الإيكونوميست»، أن «لبنان»، «يشهد حاليًا طفرة سياحية»، حيث من المتوقع أن يستقبل مليوني سائح طوال صيف 2023. ومع الإشارة إلى أن «بيروت»، في خضم «أزمة مالية» انخفضت فيها الليرة «98% من قيمتها وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40%»، فإن ما يقدر بنحو 9 مليارات دولار سينفقها السياح العام الحالي يمكن أن تمثل أكثر من 40% من الدخل القومي.
ويعد الأداء السياحي القوي في الشرق الأوسط عام 2023، أكثر «إثارة للإعجاب»، بالمقارنة مع الوجهات الأخرى، التي فشلت في التعافي من الوباء بمعدلات مماثلة. وسجلت «لجنة السفر الأوروبية»، أن الزيارات انخفضت إلى القارة بنسبة 18% في عام 2022 عن مستويات ما قبل الجائحة. وأشار «إتش إس بي سي»، إلى أن أعداد السياح إلى أوروبا، لا تزال عند معدل 90% فقط من مستواها عام 2019. كما تراجعت أعداد السياح للولايات المتحدة عن مستويات ما قبل الوباء. ووجدت «إدارة التجارة الدولية الأمريكية»، أن التعافي يقتصر فقط على 80% من مستوى السياح في عام 2019.
وبالنسبة إلى دول الخليج، فإن بيانات تقارير السياحة العالمية الصادرة عن بنك «إتش إس بي سي»، تؤكد مدى نجاح المنطقة في جذب زوار جدد، وتنويع اقتصاداتها. وبالنظر إلى الآفاق المستقبلية، يمكن توقع استمرار التوسع السياحي، بما يتماشى مع الاستراتيجيات الاقتصادية الأوسع. وأشار «البنك»، إلى أن التخفيف من قيود «كوفيد-19»، في الصين، والنمو المستمر للطبقة المتوسطة في آسيا في العقد المقبل، يوفر «أسواقًا جديدة»، لجذب الزائرين. ووفقًا لـ«المجلس العالمي للسفر والسياحة»، فإنه عندما تقترن تلك العوامل مع حجم السائحين الحاليين من بقية دول العالم والشرق الأوسط؛ فإن «المعدل الحالي لنمو السياحة إلى السعودية، يعني أنه بحلول عام 2032، يمكن أن يسهم القطاع السياحي بأكثر من 17% من الناتج المحلي الإجمالي.
وللمساعدة في هذا التقدم، تخطط «شركة مشاريع الترفيه السعودية»، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، لاستثمار أكثر من 13 مليار دولار في بناء 21 وجهة ترفيهية متكاملة بـ14 مدينة في المملكة. ومع إشارة «جاسبر جولي»، في صحيفة «الجارديان»، إلى أن صناعة الطيران العالمية، تندفع لتلبية الطلب المتزايد على السفر الجوي؛ أطلقت «المملكة»، شركة طيران وطنية جديدة – طيران الرياض – في يونيو 2023، والتي ستبدأ عملها في عام 2025، وستؤكد عنصر الاستدامة كمبدأ أساسي.
واتساقا مع هذا، فإن اعتماد دول «مجلس التعاون الخليجي»، مقترح إصدار تأشيرة موحدة لدخول جميع الدول الست، على غرار تأشيرة الاتحاد الأوروبي «شنغن»، يعد «عنصرا مهما»، يمكن أن يعزز فرص السياحة في المنطقة. وتبنيًا لهذه الفكرة، أشارت وزيرة السياحة البحرينية، «فاطمة الصيرفي»، إلى أن تلك التأشيرة المقترحة تمثل «فرصة كبيرة» لدول «المجلس»؛ لتوحيد جهودها السياحية، والسماح للزوار المحليين والأجانب بالدخول بسهولة إلى المنطقة.
على العموم، توضح بيانات وكالات السياحة الدولية، كيف قادت «منطقة الشرق الأوسط»، النمو السياحي العالمي بعد الوباء، حيث لعبت دول الخليج، «دورًا فعالًا» في هذا الانتعاش. وبالنظر إلى المستقبل، يمكن توقع المزيد، مع تأكيد «فيليبس»، أن «الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المهمة في السنوات الماضية ساعدت على تحسين وضع قطاع السياحة، خاصة أن اقتراح ضوابط جديدة، والتأشيرات المبسطة يفتح الباب أيضًا لمزيد من الوسائل لجذب السائحين من جميع أنحاء العالم.
ومع وضع «الرياض»، خطة لاستهداف 100 مليون زائر سنويًا، وتحديد «أبو ظبي»، هدفًا مماثلاً، لجذب 40 مليون سائح سنويًا في غضون سبع سنوات؛ فمن المتوقع حدوث نمو متسارع في الإيرادات غير النفطية في المنطقة. وفي حين أشار بنك «إتش إس بي سي»، إلى أن المنطقة تتمتع بأعلى معدل للسياحة في العالم، قادر على المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5%، فمن المنتظر أن ينمو هذا الرقم في السنوات القادمة بمعدلات كبيرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك