لنتخيل، مجرد تخيل، أن رجلاً اشترى فسيلة نخلة، وقيل له إن هذه الفسيلة تحتاج إلى حوالي 5 سنوات حتى تثمر، وحتى تثمر جيدًا فإنها تحتاج إلى حوالي (كذا) لتر ماء في اليوم، وإنه ينبغي الاهتمام بها وتغذيتها (بكذا) كيلو سماد طبيعي كل 6 أشهر، وتحتاج إلى القضاء على الحشرات والضواري وما إلى ذلك من سبل الاهتمام بالنخيل.
أخذ الرجل الفسيلة ووضعها في حديقة منزله، وقال في نفسه: «لماذا الانتظار حوالي 5 سنوات؟ ماذا يحدث لو أني سقيتها كل كميات الماء التي تحتاج إليها خلال السنوات الخمس في ليلة واحدة، وكذلك إن وضعت لها كل كميات السماد التي تحتاج إليها في نفس الليلة، فهل تنتج ثمارها في اليوم التالي؟».
فقام الرجل وحسب كميات الماء التي من المفترض أن يسقي بها النخلة خلال السنوات الخمس، وكذلك حسب كميات السماد، ثم ذهب إلى السوق واشترى كل المستلزمات المطلوبة لتربية وتنمية النخلة، ووضعها كلها تحت النخلة في تلك الليلة، على أمل أن يختزل السنوات الخمس في ليلة واحدة ويستفيد من الوقت الضائع –كما يعتقد– ثم ذهب لينام، وهو يحلم أنه سوف يجني ثمار النخلة غدًا، فهل يمكن أن يحدث ذلك؟ هذه تسمى نظرية المزرعة.
نظرية المزرعة تعني باختصار أنه لا يمكن اختزال كل سنوات النجاح في لحظة واحدة، ولا يمكن اختزال تطور الأفراد والمؤسسات في يوم واحد، ولا يمكن إدارة المشاريع في فكرة واحدة، ولا يمكن حل المشكلات بضربة العصا السحرية، ولا يمكن تحسين الأمور وتطوير الأفراد والمؤسسات إلا من خلال خطة ومنهجية قصيرة وطويلة المدى، بعد أن تتضح الأهداف والرؤيا والاستراتيجيات وما إلى ذلك، ولا يمكن أن أقول لابني الصغير وهو في أول يوم مدرسي «غدًا أريد أن أراك أكبر مستثمر أو طبيب أو مهندس في البلاد»، إن هذا ضرب من خيال.
هذه الفكرة ببساطتها هي فلسفة (الكايزن) للجودة. فما هي فلسفة الكايزن؟ ومن أين أتت؟
يقول ماساكي إيماي مبتكر ورائد طريقة وفلسفة الكايزن في كتابه (كايزن: مفتاح نجاح اليابان التنافسي) الكايزن هو مصطلح ياباني يعني (التحسين المستمر) وهو يتكون من مقطعين؛ (Kai) ويعني التغيير، و(Zen) يعني إلى الأفضل، حيث يعني المصطلح بصورة عامة (التغيير إلى الأفضل أو الأحسن)، أما المعني الشائع له فهو التحسين التدريجي المستمر (Continual Improvement) في جميع مناحي الحياة، بحيث يشارك فيه جميع العاملين أو المرتبطين في عملية التحسين وعلى جميع المستويات الإدارية، بغض النظر عن مراكزهم الوظيفية من الإدارة العليا إلى عامل التنظيف فيها، وإن كنا نتحدث عن حياة الأفراد فإننا نقصد ببساطة أن يسهم جميع أفراد العائلة بغض النظر عن أعمارهم في عملية التحسين، وذلك من خلال إبداء آرائهم أو إدخال التحسينات الصغيرة التي يجدونها مناسبة بصورة تدريجية، بعد أن يتم الاتفاق عليها، ضمن برنامج كبير.
يقول ماساكي إماي: «تكمن فلسفة الكايزن في التحسين التدريجي والتغيير المستمر لكافة أوجه وأنشطة المؤسسة نحو الأفضل، ولكن بدون تكبد الكثير من المصاريف أثناء إجراء هذا التغيير، والمقصود به هو التغيير الذي يتفق مع استراتيجية المؤسسة ويسهم في تحقيق أهدافها. ليس ذلك فحسب، وإنما يعني التحسين المستمر في الحياة الشخصية، والحياة المنزلية، والحياة الاجتماعية، والحياة العملية».
باختصار وببساطة يمكننا القول إن فلسفة الكايزن تعني التحسين الصغير المستمر، على أن يعالج هذا التحسين مشكلة من المشاكل، وبأقل كلفة، وبأقل الأخطاء.
ولعل السؤال المطروح هنا هو: ما أهمية تنفيذ هذه الفلسفة في مؤسساتنا أو حياتنا الشخصية؟
وجدنا من خلال عملنا في تطوير وتحسين بعض المؤسسات أنه يمكن تلخيص أهمية تنفيذ هذه الفلسفة في الأمور الآتية:
1- تقليل الهدر والنفايات والترهل: سواء كنا نتحدث عن حياتنا الشخصية أو المهنية، فإنه لا يمكن أن تتحسن الأمور إلا بالتخلص من كلّ الحمل الزائد غير المفيد الذي يحيط بنا بهدف ضمان تحقيق نتائج أفضل. ففي حياتنا مثلاً هناك الكثير من الأعباء التي نحملها من غير أن تفيدنا، فنحن مثلاً نشتري الكثير من المواد الغذائية شهريًا، وجزء من تلك المواد يتلف ويرمى، فلو أننا قللنا من تلك المواد بصورة تدريجية فإن ذلك يُعد تحسينًا، وفي حياتنا المهنية فإن العديد من المؤسسات تنشأ لجانا، لتنبثق عن تلك اللجان لجان أخرى من أجل التأكد من صحة توقيع أو أداء وظيفة معينة. ولكن مع اتباع فلسفة الكايزن المعتمد على التغيير المستمرّ سنجد أن من الضروري أن نتخلّص من كل تلك النفايات (الماديّة والمعنوية) بشكل دائم، ما يقلّل الهدر ويساعدنا على استغلال الموارد بشكل أفضل على الدوام.
2- رفع الإنتاجية: من الطبيعي بعد أن يتخلص المرء من الأعباء والنفايات والهدر الكبير في المال والجهد والوقت وكل ما هو عديم النفع ستتحسّن إنتاجية الإنسان وترتفع تلقائيًا، سواء ظهر ذلك في إنهاء مهامّ أكثر في العمل، أو اكتساب المزيد من الوقت لممارسة هواية أو تحسين نمط الحياة أو غير ذلك.
3- التركيز على النتائج من خلال منهجية متكاملة: من الواضح أن فلسفة التحسين أو التطوير المستمرّ هي عملية تركّز على النتائج بشكل أساسي، لذلك فتطبيقُ هذه الفلسفة وهذا المبدأ في حياتنا سيساعدنا على امتلاك رؤية واضحة حول الهدف أو النتيجة النهائية التي نريد تحقيقها، ومن ثمّ العمل بجدّ كلّ يوم للوصول إليها.
4- رفع الجودة في حياتنا ومؤسساتنا: يجد العلماء أنه حينما تكون حياتنا بأكملها معتمدة على مبدأ وفلسفة التحسين التدريجي المستمر فإنه من الحتمية أن تتطور وترتفع جودة نمطية حياتنا وأعمالنا المهنية مع مرور الوقت، وهذا يعني أنه سينعكس ذلك على جميع مناحي حياتنا المختلفة.
5- مستويات يومية أعلى وأكثر دقة واحترافية: تقوم فلسفة الكايزن على مبدأ مهم هو (يجب ألا نقوم بالعمل اليومي بصورة يومية)، بمعنى أن نذهب إلى العمل كل يوم من أجل تطويره وتحسينه، وهذا يتطلب التركيز على تحقيق نتائج أفضل بصورة يومية للعمل اليومي الروتيني، وهذا ما يجعل المرء يقوم بكلّ أعماله بدقة أكبر، ما يقلل نسبة الخطأ والكلفة والوقت، وهذا يعني بصورة أخرى أن نذهب إلى العمل ليس لمجرد أداء عمل وإنما من أجل تحسين العمل اليومي ولو بصورة بسيطة، وهذا ما يسهم في انتشار السعادة الوظيفية في بيئة العمل.
6- تقليل الكلفة المادية: وهو أمر يمكن أن نلحظه على وجه الخصوص في المؤسسات التي تعتمد مبدأ الكايزن، إذ إنّه مع التركيز على الإنتاجية والكفاءة العاليتين وتبني منهجية انتشار السعادة الوظيفية في بيئة العمل فإنه حتمًا سيتم تقليل الكلفة، نظرًا إلى أنها تحقق مخرجات أعلى من دون الحاجة إلى زيادة المدخلات، وهذا ما يحدث أيضًا في حياتنا اليومية.
7- رفع درجة التنافسية: حتمًا أن المؤسسات التي تتبع مبدأ التطوير المستمر (الكايزن) تتمتع بميزة تنافسية أعلى، ذلك لأنها تعمل على تحقيق نتائج أفضل باستمرار، ما يجعلها تنافس مؤسسات أقوى وأفضل مع مرور الوقت. ومن الجدير بالذكر أن هذا الأمر لا ينطبق على المؤسسات فقط، فعندما تعيش حياتك مؤمنًا بضرورة التغيير المستمر نحو الأفضل ستجد أنّ مستواك يرتفع تدريجيًا ويتطور مع مرور الوقت، وسوف تجد نفسك تنافس أشخاصا جددا بمستويات أعلى طوال الوقت، حتى إن كنت لا تقصد.
8- بيئة عمل وحياة سعيدة: جميع ما ذكرنا من فوائد وأهمية يقود بصورة أكيدة في النهاية إلى إنشاء بيئة عمل إيجابية وسعيدة، لأن كلّ موظف يدرك ويؤمن بأنه قادر على إحداث تغيير في المؤسسة، وأنّ هذا التغيير مهما كان صغيرًا فإنه مع مرور الوقت سيُحدث فرقًا كبيرًا، وكذلك ينعكس هذا على حياة الفرد في حياته الشخصية.
9- استمرار التطور والتحسين: نعتقد أن أفضل ما في مبدأ وفلسفة الكايزن هو أنّه عملية مستمرّة لا تنتهي؛ ما يعني أنّك بمجرّد انتهاج هذا المبدأ واكتساب هذه المهارة ستعتاد عليها، وسَتسعى على الدوام لتحقيق مزيد من التقدّم والتطوّر في جميع مناحي الحياة، ما يقدم لك المزيد من النتائج الإيجابية.
هذا الموضوع شائق، لذلك سنحاول أن نتعمق فيه بالتدريج، ولكن نود أن نوضح أن هذه الفلسفة لا يقتصر تنفيذها على قطاع الأعمال والمهن فقط، وإنما يمكن تطبيقها على المستوى الشخصي للفرد، بمعنى أنه لو أراد شخص أن يتعلم لغة معينة فلا داعي للقفزة الكبيرة، وإنما عليه بالخطوات البسيطة الصغيرة. وإذا أراد أن يرفع مستواه في اللياقة البدينة أو حفظ القرآن الكريم أو القيام بأي عمل مهما كان فيمكن أن يستخدم هذه الفلسفة، وسوف يجد أنه مع الوقت قد أنجز من المهام ما لم يتوقع إنجازه. ولكن قبل أن نختم هذا المقال اليوم لنتحدث بشيء من التوسع في مقالات قادمة يمكن أن نقول إنه يجب أن:
1- لا يمر يوم واحد دون إجراء أي تحسينات –مهما كانت ضئيلة– في أي مكان من المؤسسة أو جوانب حياتك.
2- لا يوجد أي شيء لا يمكن تحسينه، فكل شيء يمكن تحسينه، بل ينبغي تحسينه.
3- بدلاً من أن تنتقد، اقترح أي تحسينات.
نواصل مرات أخرى في التحدث عن الكايزن.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك