اعتبر بعض المفكرين والباحثين العرب أن الطرح المعاصر لقضية «المستبد العادل» أساسه في الثقافة العربية، واعتبر البعض الآخر أنها نتاج الثقافة العربية الإسلامية، وأن العرب يفضلون قيمة العدل حتى لو ربطت بالاستبداد أكثر من قيمة الحرية.. في حين أكد آخرون أن القضية مرتبطة بالسياق السياسي الذي يستدعي قيمًا بعينها في التاريخ والتراث ويستبعد أخرى.
والحقيقة أن الإرث الثقافي لأي أمة من الأمم لا يشكل بمفرده خياراتها السياسية، وإنما هناك سياقات معاشة تعزز من بعض القيم الثقافية، وهناك سياقات أخرى تعزز من قيم أخرى.
فيقينًا العالم العربي في عصر الاستعمار والاحتلال ومواجهة إسرائيل كان يبحث عن مُخلّص أو منقذ حتى لو كان «مستبدًا عادلًا»، فركز على قيم العدالة في الموروث الحضاري العربي الإسلامي أكثر من قيمة الحرية، لأسباب مرتبطة بطبيعة التحديات التي واجهها في عصر التحرر الوطني والأحلام الكبرى.
والحقيقة أن الحديث عن المخلص حتى لو كان «مستبدًا عادلًا» أطلت برأسها مرة أخرى في أكثر من بلد عربي، وخاصة في البلاد التي تعاني من انقسام ومواجهات أهلية، فهناك في العراق وليبيا واليمن وحتى السودان (عقب الحرب الأخيرة) من يقول إننا في حاجة إلى مخلص حتى لو كان مستبدًا، فالمهم أن يكون رجلا قويا وعادلا.
من الواضح أنه كثيرا من البلاد المأزومة، أو التي تعاني من انقسامات أو حروب، تبحث عن مخلِّص أو منقذ بعد أن فقد الناس الثقة في المؤسسات والنخب الموجودة.. وهو لا يعني بالضرورة دعم الاستبداد.
مطلوب التمييز بشكل واضح بين المنقذ أو المُخلِّص والمستبد العادل، وخاصة بعد أن تغير شكل «المخلِّصين» مؤخرًا في العالم، وظهر قادة وسياسيون من خارج المشهد السياسي التقليدي وقدموا أنفسهم باعتبارهم مجددين للنظام القائم ومن خارج أطره التقليدية وقواه السائدة، وحملوا في طيات خطابهم معاني تقول إنهم «منقذون» لبلادهم من مساوئ النظام القائم ومن هيمنة النخب الحاكمة.
معيار نجاح هؤلاء متوقف على عدم إعطاء أنفسهم أي حصانة خاصة تحولهم من خانة المجدد إلى العادل ولو المستبد، والتزامهم بالآليات الديمقراطية وبقواعد دولة القانون، وأن ظهور نخب وحركات سياسية تطرح أفكارا بديلة للمنظومة السائدة أمر حميد ويسهم في تجديد النظم القائمة.
لا يمكن القول إن الثقافة العربية تكرس الاستبداد، وإنما يمكن القول إن هناك سياقات سياسية وثقافية تستدعي قيم الاستبداد الموجودة في كل الثقافات، والمطلوب هو تحويل صيغة المنقذ والبطل القومي التي كانت تفتح الباب أمام الاستبداد إلى صيغة جديدة يتحول فيها المنقذون إلى مجددين.
فكما كان التاريخ العربي الإسلامي زاخرا بآلاف المجددين والمصلحين، فإننا نحتاج حاليًا إلى أن نستدعي من ثقافتنا وتراثنا فكر المصلحين ورسائلهم، وليس فكر أي رموز أخرى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك