قبل أكثر من قرنٍ من الزمان والدول الصناعية المتقدمة الكبرى في الشرق والغرب كانت تعيش حياة مزدهرة ومتقدمة، ومتسارعة في النمو، وشديدة التطور والرقي في كافة المجالات والقطاعات التنموية مقارنة بالدول الفقيرة الضعيفة والنامية التي كانت تغوص في سباتٍ عميق من الجهل والتخلف وضعف الحركة التنموية.
وفي الوقت نفسه كانت هذه الدول المتقدمة، وبخاصة الدول الغربية، تسيح في الأرض فساداً وتدميراً، وتعبث بثرواتها وخيراتها الحية وغير الحية، وتستبيح كافة حرمات بيئتنا العامة والمشتركة، في البر والأدغال النائية، وفي أعماق البحار والمحيطات المظلمة السحيقة، وفي أعالي السماء وفي الفضاءات العليا، فلم تُبق شبراً من هذه الأوساط البيئية إلا وأضرت به، ودهورت صحته نوعاً وكماً.
ونتيجة لهذه الأعمال التنموية الواسعة الانتشار في القطاعات المدنية والعسكرية على حد سواء فقد انكشفت مظاهر التدهور في بيئتنا بسبب عبث أيديهم فيها واستنزافهم مواردها، ولكن هذه المظاهر المرضية وأعراض العلل والأسقام التي أصابت بيئتنا في معظمها لم تقع في هذه الدول الصناعية التي تسببت هي وحدها في نزولها على كوكبنا، وإنما عمَّت شرورها وتداعياتها فشملت الكرة الأرضية برمتها، وأفسدت حياة جميع البشر في الدول المتقدمة نفسها وفي الدول الفقيرة النامية التي لم يكن لها أي دور أو مسؤولية في وقوعها. ومن هذه المظاهر، على سبيل المثال، انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون الواقعة فوق سطح الأرض، والتغير المناخي ومظاهره الكثيرة والمتعددة، المتمثلة في سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حمضية مياه البحر، وتداعياتها العميقة والواسعة على القطاع البيئي، والاقتصادي، والصحي، والأمني.
ولذلك فمن المفروض من الناحية الإنسانية والأخلاقية أن تتحمل هذه الدول المتهمة بوقوع هذه الكوارث البيئية على الأرض فاتورة التصدي لكل هذه المظاهر، وأن تدفع هذه الدول المسؤولة تكاليف مكافحة هذه التداعيات. ولكن الواقع يؤكد أن الدول الصناعية المتقدمة استفادت كثيراً من مردودات التنمية الاقتصادية والاجتماعية أكثر من مائة عام، ولكنها بالرغم من ذلك فإنها تضغط الآن على الدول الفقيرة النامية التي بدأت تحبو في العمليات التنموية وتريد أن ترفع من مستوى معيشة شعوبها؛ فتقوم بإرهابها تارة بالقوة السياسية الناعمة، وتارة بالوسائل والمنظمات والمعاهدات الأممية على المساهمة في دفع فاتورة علاج مرض كوكبنا.
ومن آخر الأمثلة على الدمار البيئي والصحي الذي نجم عن أنشطة الدول الصناعية المتقدمة تلك التي كشَفَتها دراسة نُشرت في 30 أغسطس 2023 في مجلة «علوم وتقنية البيئة» (Environmental Science and Technology) تحت عنوان: «المساهمات المرتفعة غير المتناسبة للأسلحة القديمة التي عمرها 60 عاماً تُفسر استمرار التلوث الإشعاعي في الخنازير في منطقة بافاريا الألمانية».
فهذه الدراسة قدَّمت الحل لأحد الألغاز القديمة التي كانت تحير علماء أوروبا منذ عقود من الزمن، وهو الارتفاع المطرد في تركيز الاشعاع في عضلات الخنازير البرية التي تعيش في غابات ألمانيا والنمسا، مقارنة بانخفاض تركيز الاشعاع مع الزمن في الأوساط البيئية والحيوانات الأخرى التي تعيش في تلك المناطق. فالتفسير الأولي لهذه المعضلة، أو الاعتقاد القديم السائد، وجه أصابع الاتهام لكارثة تشيرنوبيل التي وقعت في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، فلوثت معظم مناطق الكرة الأرضية بالإشعاع، وبدرجةٍ أكبر في الدول الأوروبية المجاورة وعلى مسافة آلاف الكيلومترات من موقع الكارثة.
فهذه الدراسة الميدانية أخذت عينات من عضلات 48 خنزيراً برياً من خمس مناطق في غابات بافاريا (Bavaria) في جنوب ألمانيا التي تبعد نحو 1300 كيلومتر من تشيرنوبيل، وأَجْرتْ عليها التحاليل الاشعاعية لمعرفة تركيز ونوعية الاشعاع في هذه الخنازير، حيث تركزت التحاليل على نسبة التلوث الاشعاعي بعنصر السيزيوم ونظائره المتعددة، وبالتحديد السيزيوم-137، والسيزيوم-135. وكانت النتائج غير متوقعة، إذ إن العلماء كانوا يظنون أن التلوث الاشعاعي آخذ في الانخفاض مع الزمن لعدم وجود مصدرٍ مستمر للمواد المشعة، فالتركيز في جميع العينات كان مرتفعاً جداً وأعلى من المعايير الخاصة بتركيز المواد المشعة في المواد الغذائية، ما يعني أن هذه اللحوم غير صالحة للاستهلاك الآدمي، فالتلوث بالسيزيوم المشع في عضلات الخنزير تراوح بين 370 و15 ألف بيكرليز من السيزيوم المشع لكل كيلوجرام من عضلات الخنزير، علماً أن المواصفة الأوروبية لنسبة الاشعاع في المواد الغذائية هي 600، والمواصفة اليابانية 100 بيكرليز لكل كيلوجرام.
ولتحديد مصدر التلوث الاشعاعي الذي مازال مستمراً في غابات ألمانيا والنمسا وأوروبا عامة، وربما في كل دول العالم، قام الباحثون بدراسة نسبة نظير السيزيوم-135 إلى السيزيوم-137 (135Cs/137Cs)، وجاءت النتائج التي لم تخطر على بالهم، ولم يفكر أحد منهم في ذلك؛ فقد أكد العلماء أن التلوث الاشعاعي المستمر حتى يومنا هذا للخنازير البرية جاء من مصادر إشعاعية قبل أكثر من ستين عاماً، وهذه المصادر هي سباق تجارب التفجيرات النووية التي قامت بها الكثير من الدول الصناعية المتقدمة أثناء الحرب الباردة في الستينيات من القرن المنصرم، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي سابقاً، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا. فالملوثات المشعة التي انبعثت من آلاف التجارب النووية نتيجة لانشطار الذرة وانقسام النواة انتقلت إلى الهواء الجوي فلوثت الهواء في كل أرجاء المعمورة رأسياً وأفقياً، ثم ترسبت مع الوقت ترسباً جافاً أو رطباً مع الأمطار والثلوج، فلوثت أيضاً مساحات واسعة من الكرة الأرضية، واستقرت بعدها في التربة وتراكمت فيها، ثم أخذت رويداً رويداً على مدى أكثر من ستة عقود في الانتقال رأسياً إلى النباتات، وبالتحديد الفطريات التي امتصت المواد المشعة وتراكمت فيها وزادت نسبتها مع الوقت، ثم دخلت في جسم الحيوانات، كالخنازير البرية، وأصبحت في نهاية المطاف جزءاً من السلسلة الغذائية في تلك المناطق التي تنتهي بالإنسان.
فهذا المثال الحي يؤكد لنا جميعاً أن تداعيات التفجيرات النووية التي قامت بها الدول الصناعية المتقدمة في الفضاء، وعلى سطح الأرض وتحت الأرض، وفي البحار في الستينيات لم تنته بعد، ولن تنتهي أبداً، فبعض الملوثات المشعة مثل السيزيم-135 الذي له نصف عمر طويل يصل إلى 2.3 مليون سنة، التي دخلت بيئتنا وانتقلت إلى الحياة الفطرية والإنسان في كل أنحاء العالم، ستظل مشعة ملايين السنين، وستظل تتراكم في عناصر بيئتنا، وتهلك صحتنا.
فمن سيدفع فاتورة تدمير جودة الهواء بالإشعاع والملوثات السامة الأخرى، وتلويث التربة بالمواد المسرطنة، وإفساد صحتنا وصحة الحياة الفطرية؟
ومن سيتحمل عبء وكلفة إعادة تأهيل وتنظيف كوكبنا مما ارتكبته أيدي الدول الصناعية المتطورة ونتيجة لأعمالها التنموية وتفوقها العسكري في إنتاج سلاح الدمار الشامل النووي؟!
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك