كما هو الحال مع كل إدارة أمريكية جديدة، جلب «جو بايدن»، وفريقه من مسؤولي السياسة الخارجية مجموعة من الأفكار حول كيفية إدارة علاقة بلاده بالشرق الأوسط. وكما أوضح «ليوناردو مازوكو» و«كريستيان ألكسندر»، من شركة «جلف ستيت أناليتيكس»، فقد أعلن «تقليص حجم التأثير الأمريكي بالمنطقة»، والعودة إلى التركيز على العمل الدبلوماسي، مقتفيا خطى «باراك أوباما»، ورفض نهج «دونالد ترامب».
وخلال مسيرته المهنية، نجح «بايدن» في تعزيز صورته الشخصية بجميع أنحاء العالم، كرئيس «واقعي وبارع على صعيد العمل الخارجي»، على الرغم مما واجهه من تحديات على مدار السنوات الماضية؛ بسبب الاضطرابات في التنافس العالمي بين «واشنطن»، و«بكين»، وزيادة المنافسة على النفوذ في إفريقيا، ومصاعب السياسة الغربية تجاه روسيا في أعقاب اندلاع الحرب الأوكرانية.
ومع ذلك، ومن وجهة نظر «تشارلز دن»، من «المركز العربي واشنطن دي سي»، فإن مبادئ السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي قد «أقصته بعيدًا عن الشرق الأوسط». ومع عدم اقتناع الشركاء الاستراتيجيين بالتزامه الدائم تجاه المنطقة، وتزايد دور الصين الإقليمي، وفشل المبادرات الدبلوماسية تجاه إيران، واستمرار دعم واشنطن لإسرائيل على الرغم من تصاعد هجمات المستوطنين والتوسع الاستيطاني غير القانوني؛ تم انتقاده وفريقه لاعتمادهم بشكل كبير على «الأمنيات»، وارتكانهم إلى «مجازات دبلوماسية عفا عليها الزمن». ووصفه «سايمون تيسدال»، في صحيفة «الجارديان»، بأنه «موهوم، ويقدم تأكيدات خاوية، ووعودا لا معنى لها». وأضاف «شبلي تلحمي»، من «معهد بروكينجز»، أنه «فشل في قضايا حيوية؛ بما في ذلك معالجة القضية الفلسطينية».
ومن بين الانتقادات لنهجه في الشرق الأوسط يظهر عدم التوافق بين ما يعلنه «بايدن»، من مبادئ وما ينفذه من أفعال. وأشار «دن» إلى أنه يمثل «النموذج ذاته للأممية الليبرالية»، الذي يفتخر «بالدفاع عن نظام قائم على القواعد، والتعددية، والتحالفات القوية، والدفاع عن الديمقراطية». ومع ذلك، بعد عامين ونصف العام من التغييرات في السياسة الخارجية، أشار «تيسدال» إلى «إخفاقات البيت الأبيض الأخيرة»، و«ابتعاده عن الأزمات المستمرة في فلسطين، ولبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان»، حتى مع تفاقمها.
وبعيدًا عن التردد في اتخاذ إجراء حاسم، أعرب «دن» عن أسفه لأن نهج «الإدارة الحالية» تجاه المنطقة يستند على «بنية متهالكة للسياسة القديمة»، التي «تغيرت إلى درجة يصعب التعرف عليها في السنوات العشرين الأخيرة». وربما يبدو هذا التقادم في نمط التفكير أكثر وضوحًا في حالة السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين، وتقاعسها عن تصعيد العنف ضدهم في الأراضي المحتلة، وحملة التوسع الاستيطاني غير القانوني التي أقرتها حكومة «نتنياهو» اليمينية المتطرفة.
وعلى الرغم من أن الرأي السائد بين المحللين الغربيين بأن حل الدولتين يتراجع بسرعة، فإن «مايكل بارنيت» و«ناثان براون» و«مارك لينش»، في مجلة «فورين أفيرز»، أكدوا أنه لا يوجد الآن سوى «واقع الدولة الواحدة»، الذي «يستحيل إنكاره». ومع استمرار تأييد كبار المسؤولين الأمريكيين بمن فيهم الرئيس لحل الدولتين فإن «دن» رأى أن «إدارة بايدن» لم تفعل شيئًا على الجبهة الدبلوماسية لتعزيز هذا المفهوم»، وأنه «ليس لديها نية واضحة للقيام بذلك» على المدى القريب.
وبالإضافة إلى الالتزام بصيغ «كلينتون» المتقادمة، فيما يتعلق بالحدود ووضع القدس؛ أضاف «دن» أن «واشنطن» لم تقدم رد فعل كافيا إزاء المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية. واتهم «دانييل كيرتزر» السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل «نتنياهو» بتفعيل «سياسة الضم الزاحف للأراضي». وشجب «دينيس روس» المنسق الأمريكي الخاص السابق لعملية السلام بالشرق الأوسط تعثر عملية السلام في المنطقة، وسط «فقدان كامل للأمل في التسوية من كلا الجانبين». وفي تقييم «دان»، فإن الواقع الحالي يتلخص في «حل الدولة الواحدة، بحكم الأمر الواقع»، الذي تحتفظ فيه إسرائيل بالسيطرة من خلال «نظام عسكري قمعي» ضد الفلسطينيين.
ولعل هذا القمع هو جانب آخر أخفقت «إدارة بايدن» في التعامل معه. وردا على الهجوم الإسرائيلي على مدينة «جنين»، الذي أسفر عن مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين وتشريد آلاف اللاجئين؛ أعلنت «واشنطن» دعمها لإسرائيل في الدفاع عن شعبها. وأضاف «دن» أنه بدلاً من تحميلها المسؤولية عما اقترفته من انتهاكات فضلت «إدارة بايدن» تحذيرها «بلغة معتدلة». فيما وصفت «الخارجية الأمريكية» الهجوم الذي استهدف قرية «حوارة» في فبراير 2023 وأودى بحياة العديد من المدنيين الفلسطينيين بأنه «غير مقبول».
وبالنظر إلى دراية المسؤولين الأمريكيين بأن الحكومة الإسرائيلية تخضع لسيطرة القوميين المتطرفين، مثل «إيتمار بن غفير» و«بتسلئيل سموتريتش»، اللذين دعيا علنًا إلى الضم الكامل للأراضي الفلسطينية؛ فقد مال الرد الأمريكي إلى التجنب الواضح واللامبالاة وعدم الاهتمام.
وفي حالة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه «إيران»، كانت الإخفاقات العديدة أيضًا هدفًا للانتقاد. وعلى الرغم من أن «بايدن» عندما تقلد منصبه كانت لديه خطة واضحة لاستعادة «الاتفاق النووي» لعام 2015، وعدم الانصياع لـ«الضغوط القصوى» التي مارسها «ترامب»، من خلال تعزيز التواصل الدبلوماسي مع «طهران»، فقد رأى «دن» أنه منذ انهيار المحادثات النووية في عام 2022 بدا «أنه ليس هناك سياسة أمريكية واضحة تجاه الملف الإيراني على الإطلاق».
وفي عام 2023 تبنت «الولايات المتحدة» محادثات سرية مع إيران عبر وسطاء؛ لإبرام اتفاق غير رسمي لخفض التصعيد، بما في ذلك صفقة لنقل أربعة مواطنين أمريكيين مزدوجي الجنسية من السجن إلى الإقامة الجبرية تمهيدًا لإطلاق سراحهم. وفي حين أشار «آرون ميلر»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إلى أنه لا توجد «صفقات جيدة» مع إيران؛ يرى «دن» أن نهج «بايدن» هو «أفضل خيار متاح في الوقت الراهن، رغم أنه «من غير المرجح أن يؤدي إلى الالتزام الدائم بوقف الأنشطة التي تثير التوترات الإقليمية».
وانعكاسًا لهذا النهج واجهت سياسة «البيت الأبيض» مع «طهران» انتقادات في الداخل. ووصف السيناتور الجمهوري «توم كوتون» الصفقة بأنها «عمل مخز لاسترضاء طهران». ورأت «ماري عبدي»، من «معهد الشرق الأوسط»، أن هناك «سابقة خطيرة» باتت تشكل الآن طبيعة العلاقات الغربية مع إيران، حيث «نجحت الأخيرة في استخدام نفوذها مع خصومها الخارجيين للفوز بتنازلات غير متوقعة»، حتى بعد الإدانات العالمية لحملات القمع ضد الناشطات في مجال حقوق المرأة.
وفي حالة العلاقات مع دول الخليج، انتقد «دن» الرئيس الأمريكي؛ لمحاولاته تجنب شركاء واشنطن الأمنيين في الشرق الأوسط، وشدد على خطورة «التخلي بسرعة» عن الدور التقليدي لبلاده في المنطقة. ومع استمرار «إيران» في تقديم الدعم لوكلائها في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، فضلاً عن التهديدات المتصاعدة ضد عمليات الشحن التجارية البحرية في المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية؛ وصف «دن» الجهود الأمريكية الحالية لردع واحتواء العدوان الإيراني، بأنها «متعثرة حاليًا».
وبالنسبة إلى ترويج «إدارة بايدن» مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية في جميع أنحاء العالم، لاحظ الباحث أن هذا الأمر ظل «بلا حراك بشكل غريب» في الشرق الأوسط، وهو ما انعكس في «عدم ذكر دول المنطقة» في قمة «البيت الأبيض» الأخيرة «من أجل الديمقراطية». ومع ذلك، توجد معايير مزدوجة في هذا الصدد، إذ لم تتم دعوة أي من دول الخليج للحضور شخصيًا أو افتراضيًا إلى القمة؛ في حين تمت دعوة إسرائيل؛ على الرغم من تصاعد انتهاكاتها بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وسعيها لإحداث تغييرات مناهضة للديمقراطية في السلطة القضائية، الأمر الذي قوض أوراق اعتماد «واشنطن» كمنتدى عالمي لتعزيز الحقوق السياسية بين الحكومات التي يفترض أنها متشابهة في الرؤى والمبادئ معها.
وفي سياق أوسع، اتهم مراقبون غربيون «بايدن» بالتراجع عن سياسات أسلافه في ظل غياب أي نجاح من جانبه. وأشار «جون إسبوزيتو»، من جامعة «جورج تاون»، إلى أنه في عام 2023 «لا يوجد فرق كبير» بين النهج الإقليمي للجانب الديمقراطي والجمهوري في «نهجهما تجاه الشرق الأوسط، أو العالم الإسلامي». وبالمثل، وافق «دن» على أن «الإدارة الحالية» «تتبنى بشكل أساسي سياسة ترامب في الشرق الأوسط».
على العموم، لدى المراقبين الغربيين رؤية «قاتمة» لسياسة بايدن الخارجية في الشرق الأوسط. وأشار «دن» إلى أن معضلة السياسة الخارجية الأمريكية حول إيران والقضية الفلسطينية «لا تزال دون حل»، وانتقد كيف فضل «بايدن» ومستشاروه مواصلة الحديث عن «نقاط الحوار القديمة التي تعود إلى عقود»، بدلاً من صياغة سياسة للتعامل مع الواقع الحالي، المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي القمعي للأراضي الفلسطينية.
وبناء عليه، خلص إلى أن استراتيجيته في المنطقة «خيالية»، محذرا من أن استخدام هذا الأسلوب «يمكن أن يضر أكثر مما ينفع»، إذ إن «التزامه بصيغ دبلوماسية عفا عليها الزمن»، كما في حالة خيار حل الدولتين، يمكن أن يكون له أضراره على المدى البعيد، كما يضعف صورة «الولايات المتحدة»، من خلال إظهارها على أنها «عاجزة» و«ساذجة» في آن واحد.
كما أضاف «تيسدال» أن الانتكاسات التي عانت منها «واشنطن» في المنطقة تثبت أن فكرة «القرن الأمريكي» «تنتقل بسرعة لتصبح مجرد ذكرى للتاريخ»، وعلى الرغم من بذل قصارى جهدها لإثبات أنها لا تزال القوة المهيمنة، يجب عليها أن تتقبل أن «نظامها القديم يقترب من نهايته».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك