تتجاوز العنصرية استخدام كلمات معينة أو الممارسات التمييزية في الحياة اليومية. يتعلق الأمر على وجه الخصوص بنمط التصورات السياسية والتصوير الفكري والعلاقات الجماعية التي تنطوي على التمييز العنصري البغيض.
يكفي أن نتأمل اليوم على وجه الخصوص الطريقة التي يتم بها تصوير القارة الإفريقية في الأخبار التي تتداول في الغرب. فمن وجهة نظر سياسية لا يُنظر إلى القارة السمراء بطريقة إيجابية.
على سبيل المثال، كانت التغطية الإعلامية الغربية للقمة الأمريكية الإفريقية، التي عقدت في واشنطن في شهر ديسمبر الماضي، قد صورت إفريقيا بالكامل باعتبارها قارة فقيرة، يائسة ومتخلفة عن ركب التقدم والحضارة.
ويمكن للمرء أن يستشف من العناوين الرئيسية أن هذه القارة الافريقية كانت أيضًا على استعداد لرهن موقفها السياسي في الصراع بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي، في مقابل المال والغذاء.
عنونت وكالة أسوشييتد برس العالمية أحد التقارير التي نشرتها في يوم 15 ديسمبر 2022 كالاتي: «يقول بايدن للقادة الأفارقة إن الولايات المتحدة (تتدخل بكل قوتها) في القارة الافريقية».
إن عبارة «بكل قوتها» تستخدم خاصة في لعبة البوكر عندما يكون شخص ما على استعداد للمخاطرة بكل شيء؛ تم الاستشهاد بهذه العبارة عدة مرات في وسائل الإعلام الأمريكية والغربية كلما تطرق الحديث إلى القارة الافريقية على وجه الخصوص.
وذكرت وكالة أسوشييتد برس أن بايدن عرض التزامًا أمريكيًا غير مشروط «بدعم كل جانب من جوانب النمو في إفريقيا». لكن «النمو» لم يكن له علاقة تذكر بالعروض والوعود التي تقدم بها الرئيس الأمريكي جو بايدن.
لقد حاول جو بايدن فقط المزايدة على الدعم الذي تقدمه روسيا لدول القارة الافريقية أملا في أن تتبنى هذه الدول موقفا مناهضا لموسكو، غير أن جهوده ومساعيه قد منيت بالفشل.
وعندما انعقدت القمة الروسية الإفريقية في السابع والعشرين والثامن والعشرين من شهر يوليو 2023 راحت وسائل الإعلام الأمريكية الغربية تصعد من حملاتها وانتقاداتها، بل إنها راحت تصور الأفارقة مرة أخرى باعتبارهم متشردين سياسيين، في حين قللت من القيمة الاستراتيجية لمثل هذا الاجتماع بالنسبة إلى كل من روسيا والدول الإفريقية.
أبرزت شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية الأمر في هذا العنوان «بوتين المعزول..»، في حين عنونت وكالة رويترز الإخبارية العالمية أحد تقاريرها هكذا: «بوتين يعد الزعماء الأفارقة بالحبوب المجانية».
وبالمقابل فإنه لم تتم الإشارة إلا قليلاً إلى إنفاق الزعماء الأفارقة الكثير من الوقت في مناقشة الدور المحتمل في إيجاد حل سلمي للحرب المروعة الجارية في أوكرانيا. وفي الواقع، فقد أعرب العديد من القادة الأفارقة عن خطاب سياسي صادق، ورفضوا الإمبريالية والاستعمار الجديد والتدخلات العسكرية الغربية على وجه التحديد.
فضلاً عن ذلك فإن المناقشة الإعلامية الغربية كانت ضئيلة حيث لم يتم التركيز كثيرا على قدرة إفريقيا على التفاوض من أجل الحصول على موقف سياسي أقوى في الشؤون العالمية، على قدم المساواة مع أوروبا على سبيل المثال.
وبدلا من ذلك، بدا أن التغطية تتمحور حول مبادرة حبوب البحر الأسود -التي تم التوصل إليها في شهر يوليو 2022- في إشارة إلى أن روسيا تهدد الأمن الغذائي في قارة فقيرة بالفعل. لكن هذا لم يكن هو الحال.
وفي خطاب ألقاه في المنتدى الاقتصادي في فلاديفوستوك في شهر سبتمبر الماضي ادعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه من بين 87 سفينة محملة بالحبوب وصل 60 ألف طن فقط من أصل مليوني طن إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
وعلى الرغم من أن الأرقام الإجمالية التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين كانت محل خلاف، فإن مركز التنسيق المشترك التابع للأمم المتحدة قال في بيان نشر في يورونيوز إن «بوتين محق في قوله إنه تم شحن كمية صغيرة فقط في إطار برنامج الغذاء العالمي».
على الرغم من أن الدول الغربية كانت أكبر من تحصل عليه من الحبوب التي يتم شحنها عبر البحر الأسود، فإن أيًا من وسائل الإعلام الرئيسية لم تشأ تصوير الأوروبيين على أنهم سكان يتضورون جوعاً، أو ما هو أسوأ من ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، لا يتم تصوير أوروبا في وسائل الإعلام الغربية على أنها قارة جشعة أيضاً. والواقع أن اللوم لا يقع أبداً على أوروبا، واستعمارها، وأسلحتها، وتدخلاتها السياسية. ومع ذلك، فإن اللوم يقع بسهولة على مكان آخر.
لنتأمل جيدا في هذا العنوان الرئيسي الذي تصدر أحد المقالات التي نشرت في مجلة «ذا كونفرسيشن» وهو ما يمثل مثالاً جيداً: «يقدم بوتين هبات غير مقنعة في محاولة يائسة للتعويض عن إلغاء صفقة الحبوب الأوكرانية»؛ إنه لتحيز مذهل.
والحقيقة هي أن الزعماء الأفارقة لم يكونوا يبحثون عن «هبات» بل كانوا يأملون التفاوض على موقف جيوسياسي أقوى في خريطة سياسية عالمية متغيرة إلى حد كبير؛ تماما مثل أي شخص آخر.
وسواء كان «سعي» بوتين في إفريقيا «يائسا» أم لا، فلا يهم كثيرا. ومع ذلك، يصبح هذا التحيز واضحا عندما تتم مقارنة اليأس الروسي المزعوم بنتائج القمة الأمريكية الإفريقية في العام الماضي.
تم تقديم «عرض» بايدن على أنه محاولة لبناء الجسور وخلق فرص للتعاون المستقبلي. وكل ذلك يتم، بالطبع، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن الممكن أيضاً أن ننظر إلى تشويه صورة إفريقيا بشكل مستقل عن الحرب الروسية الأوكرانية.
ولنأخذ على سبيل المثال الطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام الغربية مع الانقلاب العسكري في النيجر في السادس والعشرين من شهر يوليو 2023م. فالنيجر جزء من دول الساحل في إفريقيا، وهي امتداد للدول التي استعمرتها فرنسا. وبعد عقود من حصول هذه البلدان على استقلالها الاسمي واصلت باريس ممارسة نفوذ سياسي قوي وسيطرة اقتصادية.
هذا هو ما يسمى الاستعمار الجديد. فهو يضمن استمرار استغلال ثروات المستعمرات السابقة من قبل المستعمرين السابقين. والواقع أن ثروة النيجر من خام اليورانيوم ساعدت في تغذية أكثر من ربع محطات الطاقة النووية في الاتحاد الأوروبي، وقسم كبير من محطات الطاقة النووية في فرنسا.
قبل عقد من الزمن عادت فرنسا إلى منطقة الساحل كقوة عسكرية، باسم محاربة الجهاديين. ومع ذلك تزايدت أعمال العنف، الأمر الذي أجبر بلدان الساحل الإفريقي على التمرد، بدءا من جمهورية إفريقيا الوسطى، ثم بوركينا فاسو، ومالي، وتشاد، وأخيرا النيجر.
ويظهر القليل من هذا السياق في تغطية وسائل الإعلام الغربية. وبدلاً من ذلك، وكما هو الحال مع مالي والدول الأخرى، يتم تصوير النيجر باعتبارها أحد أتباع روسيا في إفريقيا.
وهكذا جاء عنوان شبكة «سي إن إن» في 2 يوم أغسطس 2023م: «قائد انقلاب في النيجر يجتمع مع المجلس العسكري المتحالف مع فاغنر في مالي». وهنا لا تترك شبكة سي. إن. إن. أي مجال لاحتمال أن يكون لدى القادة الأفارقة أجندات أو إرادة سياسية خاصة بهم.
إن علاقة الغرب مع دول القارة الإفريقية تنطوي على إشكالية معقدة، وتمتد جذورها إلى الاستعمار، والاستغلال الاقتصادي، والعنصرية الصريحة.
إن الأفارقة يصبحون «حلفاء» جيدين عندما يمتثلون للخط والأجندات الغربية، ويكونون جائعين ومتخلفين ومشردين، ويسهل التلاعب بهم، وأنظمة غير شرعية عندما يتم رفض شروط الغرب.
لقد حان الوقت لإعادة التفكير ومواجهة هذا التصور المهين الذي ينطوي على نظرة عنصرية مقيتة. إن إفريقيا، مثلها مثل كل المجالات السياسية الأخرى، منطقة معقدة ومتضاربة، وتستحق الفهم العميق والتقدير، بعيداً عن الأجندات الأنانية التي تتبناها قِلة من الدول الغربية.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك