ربما يظن الإنسان أنه لو ارتفع مئات الكيلومترات إلى أعالي السماء، وفي منازل مرتفعة ومُشيدة ومغلقة بعيدة عن الأنشطة التنموية وبعيدة عن المصانع ووسائل المواصلات والمصادر الأخرى للتلوث، فإنه سيسلم من شرور وأضرار الملوثات بمختلف أنواعها وأشكالها، وسيكون بمنأى من التعرض لها ولتداعياتها، وسيعيش في بيئة نقية صافية خالية من الشوائب، فلا تعكر صفاءها المواد الكيميائية المفسدة لجسم وعقل ونفسية البشر.
ولكن الواقع يقول غير ذلك، ويُخيِّب ظن الإنسان ويحبط آماله في العيش في بيئة آمنة وسليمة من السموم والمسرطنات، إذ لا مفر من التلوث، ولا يمكن تجنب شر الملوثات والاختفاء عنها أينما كان الإنسان، ومهما اتخذ من إجراءات وقائية وعلاجية لتجنب التعرض لها.
فكم منَّا كان يتصور أنك عندما تكون في ارتفاع أكثر من مئات الكيلومترات فوق سطح الأرض، وفي الفضاءات العليا، فإن الملوثات ستزال تلاحقك وتتعرض لها في ذلك المكان النائي والبعيد؟
وكم منا يتخيل أنك حتى لو كنت في سفينة فضائية في السماء مغلقة ومحكمة تماماً فإنه بالرغم من ذلك ستصل إليك الملوثات هناك، وستصيبك بالأمراض والعلل التي لا يعلم أحد عنها حتى الآن؟!
وهذه الأسئلة التي أطرحها أمامكم ليست من محض الخيال، وليست نظرية بعيدة عن الواقع الذي يعيشه الإنسان، فقد نُشرت دراسة ميدانية مخبرية تحت عنوان: «الملوثات العضوية الثابتة في غبار سفينة الفضاء الدولية»، وهذه الدراسة التحليلية منشورة في مجلة «رسائل تقنية وعلوم البيئة» (Environmental Science and Technology Letters) في 8 أغسطس 2023.
فقد أُجريت الدراسة على جودة الهواء في البيئة الداخلية لسفينة الفضاء الدولية المعروفة بالمحطة الفضائية الدولية «International Space Station (ISS)»، الموجودة على ارتفاع نحو 400 كيلومتر فوق سطح البحر وفي مدار أرضي منخفض، حيث يسكنها ويزورها رواد الفضاء من بعض دول العالم، إضافة إلى بعض السياح.
فعندما تم تحليل عينات من الغبار الذي يستنشقه رواد الفضاء الذين يترددون على هذه المحطة الفضائية وجدوا ما لم يخطر على بال أحد منهم، ولم يتصور هؤلاء الرواد والزوار أنهم كانوا يتعرضون للملوثات الخطرة والمسرطنة حتى وهم في تلك البيئة الصغيرة البعيدة كلياً عن أيدي البشر في أعالي السماء، بل إن تركيز بعض الملوثات كان أعلى من تركيزها في البيئات الداخلية على سطح الأرض، حيث مصادر التلوث التي لا تعد ولا تحصى في المنازل والمكاتب والمباني المغلقة. فمِن بين الملوثات التي تم الكشف عنها في هواء سفينة الفضاء هي مجموعة كبيرة من الملوثات العضوية العطرية، مثل المركبات العطرية متعددة الحلقات (polycyclic aromatic hydrocarbons)، وبأعلى تركيز بلغ 1600 نانوجرام في الجرام الواحد من غبار السفينة. كذلك احتوى الغبار على مركبات عضوية عطرية متعددة البرومين وبتركيز وصل إلى 2300 نانوجرام في الجرام الواحد. إضافة إلى ملوثات أخرى مثل المركبات العضوية الفوسفورية، ومركبات عضوية متعددة الفلورين وبتركيز وصل إلى 36000، وثنائي الفينيل متعدد الكلورين وبتركيز بلغ 620، كما كان تركيز حمض الأوكتانويك متعدد الفلورين في الغبار 3300 نانوجرام في الجرام من غبار السفينة الفضائية.
ويرجع السبب في وجود الملوثات الأرضية في تلك المحطة الفضائية إلى المواد التي استُخدمت في داخل السفينة، إذ إن الإنسان وضع المواد نفسها التي كان يستخدمها في المرافق الأرضية في السفينة الفضائية، منها رش المبيدات لقتل الجراثيم والكائنات الدقيقة الضارة، ومنها الملوثات التي تنبعث وتتسرب من مواد جدران وأرضية المحطة، ومنها المواد التي تستخدم ضد الحريق، إضافة إلى تسرب الملوثات من أثاث المحطة والأجهزة الكهربائية الإلكترونية.
وهذا التلوث في السفينة الفضائية هو نوع من أنواع التلوث في البيئات الداخلية، كالمنزل، والمكتب، والسيارة، والمدرسة، والمباني والعمارات، وأصبح الآن التلوث في البيئات الداخلية علماً يُدرس في الجامعات، وهمَّاً بيئياً وصحياً لعامة الناس.
ومع الزمن تأكدتْ عدة حقائق متعلقة بالتلوث في البيئات الداخلية، وبالمشكلات البيئية والصحية التي تنجم عنها، وهي كما يأتي:
أولاً: هناك مصادر مُحددة ومتزايدة للتلوث في البيئات الداخلية، منها مصادر تنبعث منها الملوثات الكيميائية، ومنها مصادر تتسرب منها الملوثات الحيوية كالبكتيريا والفطريات، ومنها مصادر تنبعث منها الموجات بمختلف أنواعها كالموجات الصوتية والضوضاء. ومن هذه المصادر الأثاث المنزلي، والسجاد، ودهان الجدران، والتدخين، وحرق البخور والعود، والرطوبة على جدران وأسقف الحمامات التي تنمو عليها الكائنات الدقيقة، وأدوات التنظيف والتلميع، والفرن المنزلي، والمبيدات، والأجهزة الكهربائية.
ثانياً: اكتشفتْ الدراسات أن تركيز بعض الملوثات في المنزل في بعض الحالات أعلى من البيئة الخارجية.
ثالثاً: هناك أمراض اعترفتْ بها منظمة الصحة العالمية كأمراض خاصة تنجم عن مصادر التلوث في البيئات الداخلية، مثل مرض اللجيونير الناجم عن بكتيريا اللجيونير (legionnaire)، ومرض المباني المغلقة، أو ظاهرة المباني المرضية (sick building syndrome)، حيث تكون المباني شبه مغلقة ومُحْكمة والتهوية ضعيفة، فلا يتجدد الهواء الداخلي في فترات زمنية منتظمة. وهذه الظاهرة المتمثلة بفقر التهوية في البيئات الداخلية تؤدي مع الزمن إلى تراكم الملوثات المنبعثة من كافة المصادر في هذه البيئات الداخلية، وارتفاع تركيزها مع الوقت حتى تصل إلى النقطة الحرجة الضارة بصحة الناس، ولذلك عند تعرض الساكنين لهذا الهواء الملوث طوال اليوم ساعات طويلة من الزمن يصابون بمجموعة من الأعراض المرضية الخاصة والفريدة من نوعها، مثل السعال والكحة، والحكة الجلدية، وضيق التنفس، والحساسية، وآلام في الصدر، والتهاب في العين.
لذلك فالتلوث يلاحق الإنسان أينما كان، سواء كان في بيئات خارجية، أو بيئات داخلية، أو في مواقع في الكرة الأرضية بعيدة جداً عن الأنشطة التنموية البشرية، أو حتى عندما يكون في أعالي السماء في الفضاءات العليا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك