أصبحت قضية الأمن البحري في الخليج العربي مصدرًا للتوترات الإقليمية على نحو متكرر، إذ شهدت مياهه عددا كبيرا من الأنشطة العدوانية، التي غالبا ما يكون منبعها إيران ووكلاؤها. ونظرًا إلى أهمية المنطقة لصادرات الطاقة والتبادل التجاري، فمن الطبيعي أن تزداد الجهود متعددة الأطراف لتأمين مياهها، ومن ثمّ فإن المنطقة تشهد حشدا للقوة البحرية. وبالإضافة إلى مرابطة الأسطول الأمريكي الخامس في منطقة الخليج، نشرت «واشنطن»، أسرابًا من مقاتلات «اف-35، وإف-16، وإيه-10»، ومدمرات الصواريخ الموجهة في المنطقة، التي تواجهها مجموعة إيرانية مؤلفة من سفن حربية، وزوارق دورية، وصواريخ، ومسيرات مُسلحة.
ومن المعلوم أن الخليج العربي يعد أحد أكثر الممرات البحرية ازدحامًا وأهمية بالعالم، مع مرور ما يقرب من 30% من إمدادات النفط الخام العالمية عبر مضيق هرمز يوميًا. ووصفته «مجموعة الأزمات الدولية» بأنه «أحد أضيق نقاط التكدس في العالم». وبالإضافة إلى أن «حركة المرور الكثيفة» للسفن قد تزيد من خطر وقوع حوادث في الممر المائي فإن إيران استغلته كوسيلة استراتيجية؛ لتهديد مصالح منافسيها. وعلى عكس مسارح المنافسة الأخرى في الشرق الأوسط فإن احتمال وقوع حادث بحري في مياهه يمكن أن يضع طهران وواشنطن في مواجهة مباشرة.
وفي الوقت الحالي، تقوم مجموعة من القوات البحرية المشتركة، مكونة من 38 دولة بقيادة الولايات المتحدة، بما فيها دول الخليج، بدوريات ومهام حماية في المنطقة. علاوة على ذلك، يدير «الاتحاد الأوروبي» أيضًا «وجودًا بحريًا منسقًا» خاصًا به لاستهداف القرصنة والجريمة المنظمة والتهريب، وغيرها من التهديدات التي تهدد «حرية الملاحة وأمن الطرق البحرية والتنمية الاقتصادية العالمية». وعلى الرغم من ذلك رأت «إليونورا أرديماجني»، من «المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية»، أن تلك الإجراءات «لم تؤد إلى حرية ملاحة أكثر أمانًا»، حيث يبدو أن التهديد الحالي لا يزال قائمًا، ويتوقف على «الخيارات السياسية لإيران»، وليس على قدرات الردع البحري للمجتمع الدولي.
وفي كل أشكال التعاون السابق استهدفت هذه المبادرات مواجهة تهديد الهجمات الإيرانية إزاء الشحن التجاري، فضلاً عن عمليات تهريب الأسلحة إلى وكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومع ذلك، شهد عام 2022 تقاربا في العلاقات الدبلوماسية بين «طهران» و«دول الخليج»، مع وجود درجة معينة من التعاون الأمني البحري، كإحدى الوسائل الجديدة للتعاون التي طرحها الجانبان. وعلى الرغم من ذلك، رأى «ليوناردو مازوكو»، من «معهد دول الخليج العربية»، أن احتمال إنشاء «تحالف بحري إقليمي رسمي» في الخليج «لا يزال بعيدًا»، مشيرا إلى أن النمط الأخير من التصعيد في الشرق الأوسط قد «خلق فرصة للتعاون الأمني البحري».
وفي النصف الأخير من عام 2022، والأول من 2023، ازدادت جهود التقارب بين دول الخليج وإيران. واستعادت الأخيرة علاقاتها الدبلوماسية مع «الإمارات» و«السعودية»، فيما وصفه «مازوكو» بأنه جزء من «استراتيجية متعددة الجوانب»؛ لتخفيف الضغوط المحلية والخارجية على طهران، فضلاً عن «إعادة ربط اقتصادها المتعثر بالوسط الإقليمي التجاري؛ من أجل تخفيف تأثير العقوبات الأمريكية عليها». ونتيجة لذلك، قام وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان بجولة في عدة دول خليجية خلال يونيو 2023.
وتزامنا مع التواصل الخليجي الإيراني برزت انقسامات داخل العلاقات الأمنية البحرية بين «الولايات المتحدة» و«الخليج». وأوضح «مازوكو» أن الطرفين يتبنيان «استجابات سياسية مختلفة» للرد على التصعيد البحري الإيراني. وفي حين اختارت الأولى «نهجا أمنيا تقليديا»، يقوم على «نشر آليات جوية وبحرية إضافية لتعزيز قدرات الردع الإقليمية لديها»؛ فقد تبنت دول الخليج «موقفا أكثر ليونة»؛ بهدف تقليل مخاطر التصعيد، مع «مطالبة واشنطن باتخاذ إجراءات أكثر قوة لردع مصادرة إيران للسفن التجارية».
وانطلاقًا من هذا، اقترح «مازوكو» أن «السمة الجديدة للديناميكيات البحرية الإقليمية، التي شابها تصاعد التوترات في الماضي بين أمريكا وإيران؛ كانت مصحوبًة بعلاقات باردة مع دول الخليج وطهران أيضًا، وخاصة أن الأخيرة تبذل حاليا جهودًا «للنأي بنظرتها الاستراتيجية تجاه دول الخليج عن ظروف علاقاتها مع واشنطن»، وهو ما يتضح من استهداف هجماتها السفن التجارية المتجهة إلى واشنطن، بدلاً من البنية التحتية للطاقة لدول الخليج.
علاوة على ذلك، يجب ملاحظة التعاون في مجال الأمن البحري بين إيران ودول الخليج. وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال من شأنه أن يُوقف الهجمات الإيرانية على السفن التجارية حول مضيق هرمز، فإن المعلقين الغربيين شككوا في مصداقية طهران.
وفي يونيو 2023 ادعى «شهرام إيراني» قائد البحرية الإيرانية أن بلاده ستشكل «تحالفًا بحريًا»، يضم «السعودية والإمارات وقطر والعراق والهند وباكستان»؛ لحماية مسارات الشحن في شمال غرب المحيط الهندي. وعلى الرغم من أن «مازوكو» أوضح أن «طهران» «لم تعلن عن خطوات ملموسة» لتحويل هذا البيان إلى واقع رسمي؛ فقد أشار إلى إبلاغ الأمير «فيصل بن فرحان» وزير الخارجية السعودي نظيره الإيراني «عبد اللهيان» باستعداد المملكة «للتعاون مع طهران لتحويل الخليج إلى بيئة بحرية آمنة». ومع ذلك، أوضح أن «التطورات الدبلوماسية» الأخيرة «لم ينتج عنها حتى الآن تحسن ملموس في الظروف الأمنية البحرية»، مع تصاعد «التفاعلات غير الآمنة في مضيق هرمز وحوله».
وأشارت «البحرية الأمريكية» إلى أن «إيران» ضايقت أو هاجمت أو استولت على ما يقرب من 20 سفينة تجارية ترفع أعلامًا دولية في العامين الماضيين، كجزء من حملة وصفتها بأنها «تهديد واضح للأمن البحري الإقليمي والاقتصاد العالمي». وأوضح «كينيث بولاك»، من «معهد أمريكان إنتربرايز»، أن سفنها «تواصل مضايقة السفن الأمريكية في الخليج»، وأن قواتها هاجمت أو احتجزت ناقلات نفط ارتبطت بصورة ما بالولايات المتحدة أو إسرائيل، خمس مرات على الأقل طوال الأشهر الستة الماضية.
ومن خلال توثيق «حشدها للأصول البحرية المتطورة»، و«أنظمة الأسلحة المتقدمة»، رأى «مازوكو» أن طهران «قامت بتسليح وعسكرة مياه الخليج؛ لبناء نفوذ استراتيجي لها أمام منافسيها الإقليميين». وعلى وجه الخصوص، أشار إلى أن استخدامها «تكتيكات الحرب الهجينة» سمح لها بالنيل من أهدافها، مع «ضمان درجة من الإنكار والمراوغة»، ومن ثم تجنب تداعيات أي عقوبات مباشرة.
ومع حديثها عن «وقف التصعيد والتعاون»، وفي نفس الوقت «الاستمرار في تنفيذ هجمات على سفن الشحن التجاري»؛ فإن هناك شكوكا في شفافية «إيران» في هذا الصدد. وحذر «بولاك» من أنه «لا يمكننا أبدًا أن نكون متأكدين من صدق نوايا طهران»؛ لأن «عملية صنع القرار فيها مبهمة دائمًا»، ولا سيما مع عدم التزامها. ووفقًا لـ«ليزا بارينجتون»، من شبكة «رويترز»، فإنه «بعد وقت قصير من إشارة البحرية الإيرانية إلى نواياها بشأن التعاون مع جيرانها الخليجيين؛ قامت باختبار «طائرة انتحارية مسيرة في الخليج، دون سابق إنذار للسفن الأخرى المارة في المنطقة المجاورة».
ونتيجة لذلك، خلص «مازوكو» إلى أنه بينما تحاول «طهران» تصوير نفسها «كداعمة للسلام الإقليمي»، فإن سمعتها باعتبارها «قوة مزعزعة للاستقرار»، واستمرارها في مهاجمة السفن التجارية، لا تزال «تترسخ داخل التفكير الاستراتيجي لدول الخليج»، مع «تقليل الاهتمام بجدية دعواتها لخلق انفراجة إقليمية مع دول الجوار».
وفي العام الحالي، أدى استمرار الهجمات الإيرانية على السفن التجارية إلى تكثيف «الولايات المتحدة» وجودها البحري في المنطقة. وبالفعل تم إرسال 3000 من أفراد ومشاة البحرية الأمريكية إلى الخليج، فيما وصفه «جاريد زوبا»، من موقع «المونيتور»، بأنه «تحذير لطهران» و«استعراض قوة» من «واشنطن». وفي مياه الخليج، تواصل «واشنطن» منع هذه الهجمات. وفي أوائل يوليو 2023 تدخلت مدمرة وطائرة دورية بحرية تابعة للبحرية الأمريكية بشكل مباشر لمنع «إيران» من الاستيلاء على ناقلتي نفط في خليج عمان.
وعلى الرغم من إصرار الأدميرال «ريان بيري» من البحرية الأمريكية على أن «الوجود العسكري» لواشنطن يسمح لها «بالتصرف لضمان التدفق الحر للتجارة»، فإن التهديدات البحرية المستمرة من إيران قد تؤدي إلى تفاقم المشكلة، وخاصة أن إعلان «الإمارات» الخروج من «القوات البحرية المشتركة» يوضح أن هذه المخاطر تثير حالة من القلق، وتدعم ضرورة إنشاء «واشنطن» جهازا أمنيا جماعيا أوسع نطاقًا؛ لضمان التدفق الآمن للسفن عبر الممرات المائية الاستراتيجية في المنطقة.
من جانبه، يرى «مازوكو» أن المطلوب هو وجود «نظام أمن جماعي بحري»، موضحا أن هذا يختلف عن «آليات الدفاع الجماعي»، مثل «القوات البحرية المشتركة»، المصممة لمواجهة التهديدات المتبادلة» –أي المنبثقة من إيران- حيث إن هناك ضرورة لإنشاء نهج جديد يضع «المخاوف الأمنية لجميع الأطراف المشاركين في الاعتبار، وعلى قدم المساواة»، ويسهل الانفتاح والتواصل مع كافة أعضائه دون استثناء». وبهذا المعنى يمكن أن تساعد إيران في تهدئة التوترات، والبناء على التقدم الدبلوماسي الذي تم إحرازه، كما أن هذا النهج سيكون «أكثر مرونة من التحالفات»، لكنه «سيظل يتطلب تطوير الأهداف المشتركة، والدخول في محادثات مبنية على صدق النوايا، والالتزام بمبادئ حسن الجوار».
وفيما يتعلق بتنظيم هذا النهج، أوضح أنه يمكن تعزيز الثقة والرغبة المشتركة في التعاون في خلال «عدة منتديات على مستوى المنطقة»، تجمع المسؤولين والقادة العسكريين، وقادة صناعة الشحن البحري في العالم للتعبير عن المخاوف الأمنية. وبعد ذلك، يمكن للتواصل المنتظم أن «يقلل من الحوادث البحرية غير المقصودة»، ويقلل من «الشكوك وحالة عدم اليقين» لدى الجهات الفاعلة الإقليمية تجاه بعضها بعضا. وفي تقييمه، فإن ذلك يمكن أن «يحفز أشكالًا أكثر مؤسسية لتفعيل المشاركة البحرية»، و«يضع أساسًا للتعاون طويل الأمد».
وحتى لو أمكن اتخاذ المزيد من الإجراءات الدبلوماسية، نحو إنشاء مثل هذا «النظام»، فقد أشار الباحث إلى أن «المشهد الأمني شديد التقلب»، إلى جانب «تصورات التهديدات المتباينة»، و«افتقاد الثقة المتبادلة»، بين دول الخليج وإيران؛ هي الأسباب التي تجعل التوصل إلى تحالف بحري إقليمي كامل «صعب المنال» في الوقت الحالي.
على العموم، مع الثقة في قدرة «الولايات المتحدة» على منع التهديدات البحرية الإيرانية، بالإشارة إلى الاستعدادات العسكرية التي قامت بها في أغسطس 2023، فقد أشار «مازوكو» إلى «الوعي المتزايد» لدى دول الخليج بالمنافع المتبادلة، لإعادة تشكيل «البنية الأمنية للمنطقة»، وحماية الممرات المائية الاستراتيجية، حيث تتحرك بقوة نحو تحقيق «ضمانة دولية»، لضمان أمن الملاحة البحرية، التي تمر منها معظم صادراتها النفطية إلى الأسواق العالمية. وأهمية هذه الضمانة أنها تتجاوز التحالف التي تقوده واشنطن، والذي يُنظر إليه على أنه خصم في مواجهة إيران، حيث تشمل هذه الضمانة المجتمع الدولي بأسره.
وبناء عليه، فإن الحديث عن «الأمن البحري الجماعي» لهذا الممر يترتب عليه التزام دولي بتحقيقه، ومشاركة جميع دول العالم ذات المصلحة في هذا الأمن، وخاصة أن استقراره «ضروري»، ليس للمنطقة فحسب، بل أيضا من أجل «السلامة الاقتصادية على المستوى العالمي».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك