البحث العلمي هو عملية تحقيق ودراسة منهجية تهدف إلى زيادة المعرفة والفهم في مجال معين، تتضمن جمع البيانات وتحليلها وتفسيرها بطريقة منهجية ومنطقية، بهدف الوصول إلى استنتاجات قائمة على أدلة قوية، ويهدف إلى إثراء المعرفة البشرية وحل المشكلات والتحديات في مختلف المجالات. وتعد ثقافة البحث نهجا تربويا يهدف إلى تعزيز مفهوم الاستقصاء والتحقق الدقيق في مجال التعلم. وتُعزز ثقافة البحث مهارات الطلاب في التفكير النقدي والاستقلالية، كما تعزز من تعلمهم بطرق تفاعلية ومنهجية، إضافة إلى أنها تعمل على تطوير المهارات البحثية لديهم، وتعزيز الفهم حول موضوع معين؛ ما يساعدهم على بناء قاعدة قوية من المعرفة والفهم في ذلك المجال أو الموضوع. كما أنها تؤدي إلى تنمية قدرتهم على تقييم المصادر والأدلة، ما يساعدهم على تطوير قدرتهم على التمييز بين المعلومات الصحيحة وغير الصحيحة. كما أنها تجعل التعلم واقعياً عملياً بعيداً عن النظريات.
أما على المستوى النفسي والاجتماعي فهي تعزز الاستقلالية وتحمل المسؤولية، لأن البحث العلمي يشجع الطلبة على العمل بشكل مستقل واتخاذ مبادرة في توجيه تعلمهم. فهم يكتشفون كيفية حل المشكلات بأنفسهم بدلاً من الاعتماد بشكل كامل على المعلمين. كما أنها تعزز ثقافة العمل الجماعي عندما تكون الأبحاث تشاركية بين عدد من الطلبة، ومن ثم نعزز الاتصال والتواصل والحوار البناء بين جميع أفراد العمل.
وفي نظرة إلى واقع الحال بين الطلاب في المنطقة العربية نلاحظ الضعف الكبير لديهم في إعداد البحوث، ويكون الامتحان هو البديل الأسهل لديهم لتحقيق النتائج وجمع العلامات. ويكون نتاجهم البحثي ضعيفا في حال طلبت منهم مهمات بحثية، وهذا من ملاحظات ميدانية خلال متابعة وتحكيم أبحاث من إعداد الطلبة ضمن مسابقات للبحث العلمي، إذ إن عددا لا بأس به من الطلبة قدم أبحاثا تقوم على فكرة النسخ واللصق من المواقع الإلكترونية، وهناك عدد آخر يقع في شباك تجار العمل البحثي أو كما أسميهم مجازيا «أصحاب دكاكين الأبحاث»، فمثل هؤلاء التجار يستغلون حاجة الطالب ورغبته في العلامة، فيعرضون خدمة البحث الجاهز الذي قد يكون ضعيفا وقد يكون جيداً متكامل الأركان، ويقدم الطالب لمعلمه نتاجاً بحثياً لم يبذل فيه أي مجهود لمجرد الحصول على العلامة، ولكنها علامة ظاهرية لن تعكس أبدا الفهم العميق لدى الطالب في المشكلة البحثية التي عالجها بحثه، ولا توجد لديه قدرة على مناقشة بحثه أو الدفاع عن نتائجه وتفسيرات هذه النتائج، وفعليا بدأت هذه الظاهرة بالارتفاع ليس على مستوى طلبة المدارس فقط ولكن على مستوى طلبة الجامعات أيضاً.
والسؤال المطروح هنا لماذا يلجأ الطلاب إلى هذه الأساليب؟ ولماذا نلحظ هذا الضعف لديهم في مهارة البحث العملي وعدم وعيهم بأهميتها؟ قد تكون الأسباب كثيرة من تقاعس وإهمال منهم أو عدم مبالاتهم لأهمية البحث أو رغبتهم بالعلامة فقط أياً كانت الطريقة، ولكن باعتقادي أن السبب الرئيس هو عدم امتلاك الطلبة مهارات البحث بشكل أصيل. ومن خلال عملنا الميداني لا توجد برامج لتدريب الطلبة على مهارات البحث العلمي إلا لدى عدد محدود من المعلمين الذين يتحملون عبء هذا الموضوع على عاتقهم لقناعتهم به ولوجود درجة عالية من المسؤولية لديهم، أو بعض المشاريع المحدودة في هذا المجال من قبل مؤسسات داعمة. وهنا لا بد لنا من أن نزرع في طلبتنا في الوطن العربي ثقافة البحث العلمي وأهميته في حياتهم التعليمية والعملية، وجعله شكلا من أشكال المهمات التي يتم تقييم الطلبة من خلالها.
بداية لا بد من تدريب الطلبة على آليات البحث العلمي، وإبراز ذلك من خلال المناهج الدراسية وتخصيص مهمات تعليمية تقوم على البحث العلمي ويتم تقييمها وفق معايير مهنية محددة، وهذا يتطلب أن يتم تخصيص حصص صفية مخصصة للتدريب على مهارات البحث. وإلى جانب المناهج لا بد من توفير البيئة السليمة والداعمة للبحث سواء في مجتمع المدرسة أو الأسرة أو المجتمع بشكل عام، وخاصة إذا كان البحث ميدانياً عملياً. ومن جهة أخرى يأتي دور العنصر الرئيس في شحذ همم الطلبة ألا وهم المعلمون الذين يقومون بتصميم المهمات البحثية للطلبة ويقودون عملية البحث على مستوى المدرسة، بتقديم الدعم والمساندة لطلبتهم خلال مسار عملهم البحثي وتقديم التغذية الراجعة الدورية والمستمرة، ومن ثم لن يكون لتجار العمل البحثي مكان بين طلبتنا فيعتمدون على أنفسهم لإنجاز أبحاثهم.
وهذا يستدعي تدريب المعلمين أيضاً على آليات البحث، ليكون لديهم القدرة على مساعدة طلبتهم وتقييم بحوثهم بصورة علمية.
من المتعارف عليه حالياً في العالم أجمع الخروج عن الأنماط التقليدية في التعليم وما يسمى «التعليم البنكي» كما وصفه باولو فريري، والذهاب إلى آليات جديدة متجددة تقوم على الممارسة والتطبيق العملي. ولعل أهم هذه الآليات التعلم بالمشروع، وقد يكون البحث العلمي شكلا من أشكال المشاريع التي يقوم بها الطلبة. إن تنمية مهارة البحث العلمي لدى الطلبة تتطلب تبني نهج تعليمي شامل يشمل الجوانب النظرية والعملية. وهنالك بعض الخطوات والاستراتيجيات التي يمكن اتباعها لتعزيز مهارة البحث العلمي لدى الطلبة:
{ تعليم أساسيات البحث العلمي بتعريف الطلبة بأساسيات البحث العلمي، مثل مراحله وأهميته وعناصر تصميم البحث.
{ تحفيز الفضول والاستفسار بتشجيع الطلبة على طرح الأسئلة والاستفسارات حول موضوعات مختلفة، وهذا يساعدهم على تطوير روح الاستقصاء.
{ تعليم مهارات البحث؛ مثل كيفية استخدام محركات البحث على الإنترنت، وكيفية تقييم مصادر المعلومات.
{ توجيه في اختيار الموضوعات بتقديم إرشادات لاختيار مواضيع البحث، التي يمكن أن تكون مرتبطة بالمنهاج أو تتعلق بمجالات اهتمام الطلبة.
{ تصميم مهمات لمشاريع البحث الطويلة والقصيرة تتراوح بين البسيطة والمعقدة، وتشجيع الطلبة على القيام بأبحاث قصيرة قد تستغرق يومًا واحدًا، ومشاريع أطول تستغرق أسابيع أو شهورا؛ بهدف التنويع والتخفيف عن الطلبة ومراعاة الفروق الفردية بينهم، ويمكن أيضًا تنظيم مشروعات بحثية جماعية لتعزيز التعاون والتفاعل بين الطلبة.
{ تقديم ملاحظات بناءة للطلبة بعد انتهاء البحث حول أدائهم والأمور التي يمكن تحسينها.
{ تقديم فرص للعرض والمناقشة للطلبة لعرض أبحاثهم ومناقشتها أمام الزملاء، ما يعزز من قدراتهم في التقديم والتواصل الفعال.
{ استخدام التكنولوجيا والمصادر المتاحة من خلال استخدم منصات التعلم الإلكتروني والموارد المتاحة عبر الإنترنت لتسهيل عملية البحث وتوفير مصادر إضافية للطلبة.
{ وخلاصة القول إن تنمية مهارة البحث العلمي لدى الطلبة تتطلب جهدًا مستمرًا وتوجيهًا فعالًا. ويعد توفير بيئة داعمة تشجع على الفضول والتعلم النشط والاستقصاء من المسؤوليات الرئيسة للقائمين على المنظومة التعليمية وعلى كافة المستويات، إضافة إلى توفير ظروف لرعاية وتبني الأبحاث المميزة التي قد تخرج بحلول عميقة لبعض القضايا الحياتية.
{ باحثة مختصة في شؤون التعليم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك