حظي القرار الصادر الأسبوع الماضي من مجموعة «بريكس» بدعوة مصر للانضمام إليها (بجانب السعودية والإمارات وإثيوبيا وإيران والأرجنتين) باهتمام إعلامي كبير، مع التركيز على المكاسب الاقتصادية المتوقعة من ذلك.
وفي تقديري أن الانضمام إلى هذه المجموعة يعد مكسبا سياسيا ودبلوماسيا لا يُستهان به، ويستحق الإشادة؛ لما يعبر عنه من استمرار الحضور على الساحة الدولية.
ولكن على الجانب الاقتصادي فإنني أنصح بالتروي في الاحتفاء بقيمة وتبعات الانضمام، وتجنب رفع التوقعات بأكثر مما ينبغي، لأن المكاسب الاقتصادية الممكنة لن تكون ملموسة في الأجل القريب على نحو ما يوحي البعض. ولتوضيح مبررات تحفظي دعونا نستعرض ملابسات تكوين مجموعة «بريكس» وتطورها.
على عكس التكتلات والمجموعات الدولية التي تنشأ استنادا إلى رغبة الدول في التعاون، فإن تعبير دول «بريك» سكَّه عام 2001 جيم أونيل، وكان وقتئذ أحد كبار المحللين في بنك الاستثمار الدولي «جولدمان ساكس»، وقد اخترع هذا اللفظ ليصف به مجموعة الدول الكبرى (البرازيل وروسيا والهند والصين) الناشئة اقتصاديا، التي كانت تحقق في هذا الوقت نموا اقتصاديا سريعا يؤهلها -من وجهة نظره- لجذب استثمارات عالمية ضخمة، ولقيادة العالم اقتصاديا بحلول عام 2050.
وكما تنتشر الأفكار البسيطة والجريئة بسرعة شاعت فكرة «بريكس» بين المحللين وفي أسواق المال، وخاصة بعد انعقاد القمة الأولى لأعضائها عام 2009 في روسيا، وتحولها إلى كيان رسمي، ثم انضمام جنوب إفريقيا عام 2011. وسادت الآمال في أن تقود هذه المجموعة دفة التحول إلى مستقبل يصبح فيه هذا التكتل قطبا اقتصاديا ثانيا يواجه سيطرة الولايات المتحدة وأوروبا على الأسواق العالمية، ومركز ثقل جديدا للاستثمار والإنتاج والنمو الاقتصادي. ولكن هذا السيناريو الجذاب لم يتحقق، ولم تتحقق معه نبوءة جيم أونيل، لتضافر عدة أسباب خلال العشرين عاما الماضية.
أولها أن قاطرة النمو الاقتصادي التي بشرت بها البنوك العالمية لم تستمر بذات الوتيرة في البلدان المذكورة. الصين نمت خلال العشرين عاما من 2000 إلى 2019 بمتوسط سنوي مرتفع للغاية تجاوز 8%، وكذلك فعلت الهند التي نمت بمتوسط يقرب من 7% خلال الفترة ذاتها. أما البرازيل فلم تنجح في الحفاظ على ذات الإيقاع، إذ بعد عشر سنوات من النمو السريع دخلت منذ 2010 في أزمات اقتصادية متعاقبة عادت بها إلى الوراء. وروسيا كذلك شهدت نموا سريعا ثماني سنوات، ثم تراجعا حادا جعل النمو في الاثنتي عشرة سنة التالية بالكاد يتجاوز 1%.
السبب الثاني أنه برغم انعقاد القمة الأولى للمجموعة عام 2010 فإنها لم تتحول إلى كيان دولي مؤسسي فعال على نحو ما جرى مع تكتلات أخرى إقليمية ودولية، ومن ثم لم يترسخ وجودها العملي بشكل ملموس. صحيح أن «بنك التنمية الجديد» -ومقره في الصين ومديرته رئيسة البرازيل السابقة- قد تأسس، إلا أنه بعد حوالي عشر سنوات لا يزال محدود الأثر، وبالكاد تجاوز التمويل الممنوح منه ثلاثين مليار دولار في ستة وتسعين مشروعا للبنية التحتية.
السبب الثالث أن مجموعة «بريكس» لم يربطها منذ البداية رابط فكري ولا توجه اقتصادي أو سياسي مشترك، بل بينها تنافر وتناقضات حادة، وخاصة بين القطبين الكبيرين الصين والهند.
وحتى داخليا في كل بلد فإن التناقضات السياسية كانت موجودة مثلما جرى مع البرازيل التي تراوحت بين الحكم اليساري ثم اليمين المتطرف ذهابا وإيابا، أو الهند التي تغيرت آيديولوجية حكمها تماما منذ عشر سنوات، أو جنوب إفريقيا التي سقطت ضحية صراعات داخلية. وطبعا روسيا باتت، مؤخرا، مقاطعة من نصف العالم. وكل هذا منع المجموعة من أن تكون لها سياسات ومواقف متسقة على الساحة الدولية.
وأخيرا، فإن السبب الرابع هو أن الصين تقدمت في العشرين عاما التالية على ظهور فكرة «بريكس» تقدما لم يكن متصورا، وشرخت وحدها في مسار مستقل، وباتت قوة يُحسب لها ألف حساب في كل المجالات، كما صار لها مشروع للتوسع الدولي اقتصاديا وسياسيا ليست مجموعة «بريكس» إلا واحدا من مكوناته. كل ما سبق دعا حتى اللورد جيم أونيل (وقد صار لوردا في البرلمان البريطاني) للتعليق الأسبوع الماضي في موقع (Project Syndicate) بما معناه أن مجموعة «بريكس» ما كان لها أن تصبح تكتلا دوليا، ولن يكون لها تأثير اقتصادي ملموس على الساحة الدولية لتنافر مواقف وسياسات أعضائها.
أفكار كثيرة طُرحت على الساحة في الأيام الماضية، عن تجارة دولية بعملات الدول أعضاء المجموعة، واستثمار وتجارة مشتركين، وأسواق جديدة للاقتراض، والقوة الاقتصادية الجماعية لمجموعة «بريكس» بعد انضمام الأعضاء الستة الجدد، وكلها أفكار جديرة بالتفكير.
ولكن ظني أن غياب الحد الأدنى من التوافق السياسي بين الدول أعضاء المجموعة سيظل عائقا رئيسا يحول دون قيامها بدور اقتصادي دولي فعال. وعلينا إذن -كما ذكرت في مطلع هذا المقال- التروي في وصف المكاسب الاقتصادية والتحفظ في التفاؤل، والاعتماد على سياسات وطنية إصلاحية داخلية للخروج من الأزمات الاقتصادية الراهنة.
{ خبير اقتصادي وقانوني نائب رئيس الوزراء المصري سابقا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك