لم يعد التغيير أمرًا اختياريًا، فالإنسان الذي يرفض التغيير يصبح كأنه من الديناصورات التي رفضت التغيير والتأقلم مع العالم الطبيعي المتغير الذي يحيط بها، فانقرضت. لذلك فإن التغيير أمر حتمي، والإنسان الذي يرفض التغيير يصنف مع الديناصورات والعقول المتحجرة التي ربما يأتي عليها يوم فتنقرض.
1. ويلاحظ من السياق القرآني أن موضوع التغيير أمر حتمي في القرآن الكريم، فمنذ الآيات الأولى في سورة الفاتحة تأتينا هذه الآيات 6–7: «اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ»، إذ يمكن أن نلاحظ أن الإنسان يطلب من الله سبحانه وتعالى عندما يخاطبه أن يلهمه النعمة والرغبة في التغيير فلا يكون من الأقوام التي ضلت أو التي جهلت.
وهذا السياق القرآني يستمر في جميع أجزاء القرآن الكريم مثل قوله تعالى في سورة الرعد الآية 11: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، فالتغيير أمر يجب أن ينبع من داخل الإنسان أولاً، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه الرغبة في التغيير، فإن وجدت تلك الرغبة وتلك البذرة فإن ما بعدها أمر حتمي. والحتمية هنا هي السعي للتغيير وبلوغ الأهداف المرجوة.
وربما تأتي قصة أهل الكهف لتوضح لنا أن هؤلاء الفتية رفضوا الواقع الذي يعيشه أهل القرية التي كانوا يعيشون فيها، فأدى هذا الرفض إلى الرغبة في التغيير، فكان تغييرهم الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، فهاجروا، وكذلك فعل كل الأنبياء عندما بلغت الأمور بينهم وبين أقوامهم حتمية المواجهة الجسدية، رحلوا وهاجروا من أجل البحث عن التغيير، فالهدف لدى الأنبياء لم يكن المواجهة والتصفية الجسدية والعنف وإنما التغيير من أجل حياة كريمة.
وفي مكة المكرمة والقرى التي حولها عندما بلغ الظلم مبلغه وبرز عنصر القوة كحاكم يفرض رأيه، ووجد المظلوم أنه لا حول له ولا قوة، وجد بعض الأفراد من أصحاب العقول الراجحة أنه لا بد مما ليس له بد، والتغيير حتمية، فسعوا إلى ما عرف بعد ذلك (بحلف الفضول)، وهو أحد أحلاف الجاهلية الأربعة التي شهدتها قريش، وقد عقد الحلف في دار عبدالله بن جدعان التيمي القرشي أحد سادات قريش وذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة، إذ توافق عليه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته). وقد شهد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل بعثته وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقًا «لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت».
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فعندما وجد أن مجتمع قريش لا يتناسب مع مفهوم التغيير الذي ينشده ارتقى بنفسه واعتزل في غار حراء، بعيدًا عن صخب قريش وحياتهم الجامدة التي تدور حول عبادة الذات والأصنام وما إلى ذلك، وفي الغار كان يفكر في نفسه ويبحث في سبل تغيير نفسه وذاته، إلا أن إرادة الله تعالى كانت أكبر من ذلك، فأتي التوجيه الكبير بتغيير العالم.
وفي بحث للدكتور أحمد شحروري بعنوان (سنة التغيير في القرآن الكريم) يشير إلى أن عناصر حركة التغيير في القرآن الكريم ثلاثة عناصر، هي:
{ واقع يقتضي التغيير.
{ هدي أو منهج يغير الواقع.
{ مدير (قائد) التغيير.
لنحاول أن نستقرأ النقطة الأولى والثانية، أما الثالثة فلنتركها لمقالات أخرى.
أولاً: واقع يقتضي التغيير. ربما هنا نسأل أنفسنا هذا السؤال: متى نشعر أننا بحاجة إلى التغيير؟ وهل فعلاً نحن بحاجة إلى التغيير؟ وربما السؤال الذهبي هو: هل نحن نحلم بالتغيير أم أننا في وضع جيد ولا نريد التغيير؟ هذه الأسئلة يمكن أن يطرحها الإنسان على نفسه أو حتى تطرحها المؤسسة على نفسها؟ فكم من مؤسسة انهارت وانتهت عندما رفضت التغيير.
يؤكد معظم الباحثين أن بداخل الإنسان الطبيعي قوة خفية ورغبة عارمة في التغيير، ولكن معظمنا يجهلها، بل ربما يفقد خارطة الطريق التي تؤدي إلى تلك القوة، فتظل كل المحاولات أحلاما تبوء بالفشل، فتظل الأوضاع على حالها، حتى يجد الشرارة التي توقد النار في نفسه، فإن استطاع أن يوقد النار في نفسه فإنه حتمًا سيصل إلى النور وإلا فإنه لن يبرح مكانه.
قوة التغيير قوة عملاقة تكمن في داخل كل منا، هذه القوة هي التي تجعل الإنسان غنيًا، وتجعل الآخر مبدعًا، وتجعل بعض الناس قادة أو فنانين أو علماء. وكذلك تفعل مع المؤسسات؛ فبعض المؤسسات تنجح خلال أعوام قصيرة وأخرى تظل في الأسواق سنوات ولكنها تسقط في الهاوية بعد سنوات، والسبب هو التغيير، والتاريخ يشهد.
وهنا دعوني أعود مرة أخرى إلى قوله تعالى في سورة الرعد الآية 11: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، فالتغيير يجب أن يبدأ من داخل النفس البشرية، فإن حدث ذلك فإنه سيؤدي إلى تغيير في الظروف المحيطة بنا، فالإنسان يمتلك تلك القوة في داخل نفسه، وهي تنتظره حتى يوقظها من رقادها، ليستمتع بالحياة ويعيش، وقد يقول قائل: هناك بعض الحواجز التي تغلف هذه القوة وتمنعنا من الوصول إليها. وهذه حقيقة؛ لذلك نجد أن القرآن الكريم في منهجيته للتغيير لا يدعو إلى التغيير المفاجئ ولا باستخدام الممارسات العشوائية أو العنيفة، وإنما القرآن الكريم يدعو إلى التغيير عبر الممارسات والخطوات البسيطة؛ فالنجاح الصغير خير من خيبة الأمل.
ثانيًا: هدي أو منهج يغير الواقع. يستقرئ الدكتور شحروري في بحثه نصوص القرآن الكريم ليستخلص مجموعة من المعالم في تغيير الواقع المذموم، ويلخصها في الأساليب الآتية:
1. التدرج في التغيير: نعتقد أن هذا الموضوع يحتاج إلى مقال خاص، إلا أننا نكرر ما قلناه سابقًا، وهو أن أفضل أنواع التغيير هو الذي يأتي بالتدرج، خطوات بسيطة ونجاحات صغيرة خير من خيبة الأمل.
2. تشخيص الواقع بدقه: عادة في علم الإدارة وريادة الأعمال نبدأ بدراسة الواقع، وتشخيص الوضع الذي نعيش فيه، سواء عن طريق التحليل الرباعي (سوات) أو غيره من الطرق، وكذلك فعل القرآن الكريم، فهو يشخص أحوال المجتمعات من غير غلو أو تبسيط، وإنما يضعها أمام القارئ بكل وضوح فيكشفها حتى تصبح واضحة جلية، فيجد الإنسان نفسه أن هذا الواقع أو هذا المجتمع بالفعل يحتاج إلى تغيير. لنستعرض كل قصص الأقوام التي ذكرت في القرآن الكريم؛ قرية سيدنا لوط عليه السلام، قرية سيدنا إبراهيم عليه السلام، قرية سيدنا صالح عليه السلام، وتوّج القرآن الكريم كل ذلك بالوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي الذي كان يعيش فيه العالم قبل البعثة النبوية الشريفة، فهل يعتقد أي منا أن كل تلك الأقوام كانت لا تحتاج إلى تغيير؟ لذلك جاء الأنبياء بمنهجية التغيير التي رفضتها شعوبهم لأنه لم تكن بها رغبة في التغيير، فانقرضت.
3. الحزم وعدم التردد في التغيير: وإن كنا نؤمن بالخطوات البسيطة في التغيير، إلا أن تلك الخطوات لا بد أن تأتي بحسم ومن غير تردد؛ فالتسويف دائمًا لا يأتي بخير، فعندما نقرر أنه لا بد أن نتخذ الخطوة الأولى في طريق ألف ميل فلا بد أن نبدأ.
4. الصبر على التغيير والمجاهدة في سبيله: جميعنا يعلم أن التغيير ليس بالعملية السهلة، فترك التدخين ليس بالعملية السهلة، لأنه مرتبط بالإدمان، لذلك يجب على المرء أو حتى المؤسسات التي تفكر في التغيير أن تصبر لأنها فعلاً تحتاج إلى ذلك، فطريق النجاح لا يكون مفروشًا بالورود، وإنما تحتاج المؤسسات والأفراد الذين يرغبون في التغيير إلى الهدوء ورسم الخطط وكل الأمور حتى يتم التغيير بنجاح.
5. اتباع أسلوب الاقناع العلمي الموضوعي: في المؤسسات التي ترغب في التغيير أو حتى بين الأفراد فإنه ينبغي أن تكون هناك نقاشات وأفكار وحوارات مع فرق العمل أو مع النفس لتشجيعها ومراقبتها وحثها على التغيير، وإلا فإن النفس البشرية تتوق إلى الخمول.
6. التنوع في الخطاب بين الترغيب والترهيب: بعض الأفراد يحتاجون في بعض الأحيان إلى تحفيز ولو كان بسيطًا من أجل حثهم على التغيير؛ مثل قطعة شوكولاتة، أو أي أمر آخر، ولكن في بعض الأحيان علينا ترهيب أنفسنا وحثها على المضي قدمًا من أجل التغيير، كأن نخاطبها بأن التدخين يسبب السرطان، وهذا أمر لا جدال فيه.
7. الغاية لا تبرر الوسيلة في التغيير: خلافًا لمبدأ ميكافيلي الذي يقول إن (الغاية تبرر الوسيلة)، فإن القرآن الكريم لا يرى ذلك، فالقرآن الكريم مبني على الطهارة الحسية والمعنوية، فهو يحترم عقل الإنسان ورغبته في التحرر الفكري والجسدي والنفسي، بل يدعو إلى المحافظة على كل تلك الخيارات والقيم. لذلك فإن الخطاب القرآني دائمًا ما يكون واضحًا لا مواربة فيه، ذلك أن القرآن في مجمله قد حرم الفساد بجميع أنواعه وتشعباته، فلا يحرم أمرا في آية ويحلله في آية أخرى، إلا فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، وهذا أمر آخر.
وفي الختام، يمكننا القول إن القرآن الكريم يحث على التغيير ويُرغب فيه، ولكن من الواضح أن السبب الرئيس في أن كثيرًا من الناس لا يتغيرون هو أنهم لم يدركوا شيئًا عن قوة التغيير في أعماقهم، ولذلك تجدهم يبقون على ما هم عليه، وكذلك عدم رغبتهم في التفكير طويلاً وعدم رغبتهم في المقارنة بين ما سيكون وضعهم عليه قبل التغيير ووضعهم بعد التغيير، على الرغم من أن القرآن الكريم يطرح تلك المقارنات بكل وضوح، فمثلاً: في سورة الزمر الآية 9 يقول تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، وكذلك العديد من الآيات.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك