لقد سمَّاهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «الفاروق»، ولهذا اللقب جلاله وعظمته، وكان حامله أو الموصوف به أمنية طالما داعبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وطالما سمع المسلمون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرددها، ويدعو ربه سبحانه أن يعز الله تعالى الإسلام بعمر بن الخطاب، ولقد صدقت فيه نبوءة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلقد أبلى في الإسلام بلاءً حسنًا. لقد أخذ العهد على نفسه، وأقسم ألا يدع موقفًا وقفه في الجاهلية ضد الإسلام إلا ويقف موقفًا في الإسلام ضد الجاهلية، وكأنه بهذا يريد أن يُبَيِّض صحيفة سوابقه، مع أن الإسلام قد أعفاه من ذلك لأن الإسلام يجب ما قبله.
يقول الدكتور طه حسين عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): لم يؤرخ مؤرخ لعظيم من العظماء كما أرخ الصحابي عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) لعمر بن الخطاب، قال: كان إسلام عمر نصرًا، وكانت هجرته فتحًا، وكانت خلافته رحمة! ومن نصره للإسلام موقفه حين أعلن إسلامه، فقد أصرَّ على بلال أن يرفع صوته بالأذان دون أن تأخذه في الحق وإعلانه لومة لائم، ثم خرج من بيت الأرقم بن أبي الأرقم في مظاهرة لم يسبق للمسلمين أن قاموا بمثلها، خرج يتوسطهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعن اليمين حمزة، وعن الشمال عمر، وطافوا بالبيت، وأعلنوا إسلامهم بعد الفترة السرية التي دامت ثلاث سنوات، ولقد عانوا في هذه الفترة أشد المعاناة، عندها أنعم عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإسلام «الفاروق» لأنه فرق بين الحق والباطل.
أما مواقفه بعد إسلامه فقد سار بها الركبان حتى إن كسرى ملك الفرس أرسل من يأتيه بأخباره التي تعجب منها حين وصلت إليه، ولقد عاد رسول كسرى ليحمل إليه الأعاجيب من أخباره حين رأى أحواله، وجاء يحمل ما رأى وسمع، ولخص ذلك في حكمة بالغة، قال رسول كسرى عن عمر: حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت.. يا عمر!
إنها عبارة جليلة وعظيمة لخص فيها رسول كسرى حياة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القائمة على العدل والزهد.
ومن أخبار عمر وعدله وإنصافه ما جرى بينه وبين واليه على مصر عمرو بن العاص (رضي الله عنه) حين اعتدى ابن عمرو على الشاب القبطي الذي سبق ابن الوالي في السباق، وأيضًا قصة المرأة القبطية التي اغتصب الوالي بيتها وضمه إلى المسجد لما ضاق المسجد بالمصلين، والقصتان فيهما إشارة واضحة الدلالة على عدل الإسلام وإنصافه لغير المسلمين.
وله رضي الله عنه موقف جليل من أموال الأمة، قال رضي الله عنه: أنا في أموالكم ككافل اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
ولننظر إلى إيمانه بحق الرعية في محاسبة الحكام، والأخذ على أيديهم إذا انحرفوا، كان رضي الله تعالى عنه يقول للناس: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها»، ووقف يومًا خطيبًا وقال للناس: «ماذا لو ملت برأسي هكذا. قال له سلمان الفارسي (رضي الله عنه): نقومك بسيوفنا هكذا، قال: إياي تعني؟ قال: إياك أعني. قال: الحمد لله الذي أخرج في أمة محمد من يقوم عمر بحد السيف.
لقد ارتاحت نفسه رضي الله تعالى عنه لهذه المقالة، واطمأن إلى يقظة الأمة لحقوقها وقدرتها على المواجهة في ثبات ويقين.
ولقد كان له موقف من أهل الذمة من النصارى، فعند تسلمه مفاتيح بيت المقدس، وحان موعد الصلاة، قال له كبير القساوسة صل داخل الكنيسة، فأبى رضي الله عنه ذلك، فقال له القس: هل تستنكف أن تصلي في كنيستنا؟ قال: لا ولكني أخشى إن صليت هنا أن يأتي المسلمون بعد ذلك ويقولوا: هنا صلى أمير المؤمنين فيقيموا فيها مسجدًا! وكان رضي الله تعالى عنه ملهمًا، فقد جاء المسلمون بعد ذلك وأقاموا مسجدًا وسموه مسجد عمر. وكان كثيرًا ما يسأله الصحابة رضوان الله تعالى عنهم: ألا تنام يا أمير المؤمنين؟ فكان يقول لهم: إن نمت بالليل ضيعت حق ربي، وإن نمت بالنهار ضيعت حق الرعية! وكان رضي الله عنه يظل يتفقد أحوال الرعية، فإذا غلبه التعب نام على الأرض، فإذا استراح بعض الشيء استيقظ وواصل رعاية شؤون الرعية، فمن أراد لقاء أمير المؤمنين ورفع حاجته إليه فلا يبحث عنه في مقار الحكم، ولا الجنات الوارفة الظلال، فلن يجده فيها، بل عليه أن يبحث عنه في الأزقة والطرقات، فهناك مقامه ومنامه ومستراحه.
هذا هو الفاروق عمر الذي تجسدت في حياته مبادئ الإسلام وقيمه العظيمة.. هذا هو الفاروق عمر الذي كان ينظر إلى أموال الأمة على أنها أموال يتامى يستعفف حين يستغني، ويأكل بالمعروف حين يفتقر، وما زاد عن حاجته وحاجة من يعول رده إلى بيت مال المسلمين!
هذا هو الفاروق عمر الذي قال عنه أخوه الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عندما دخل عليه بعد تغسيله وتكفينه، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ثم قال: والله ليس أحب إليَّ إلا أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى! ولقد ذكر هذا الموقف في كتاب نهج البلاغة، وهو كتاب مشهور يعتمد عليه كمصدر من المصادر الكبيرة والموثقة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك