اقتتل العسكر فيما بينهم في السودان فتراجع المجتمع المدني عن آماله التي كادت تتحول إلى إنجازات تاريخية.
لقد أعاق العسكر منذ عقود الحراك الاجتماعي، وحين دخلت جماعة الإخوان المسلمين على خط الحكم ازداد المجتمع تخبطا وضياعا. وكما يُقال «البوصلة انكسرت».
كان العسكر دائما في واجهة التغيير. عسكري أنهى حكم النميري وعسكري آخر قاد البشير إلى السجن. والآن عسكريان يختصمان من أجل أن ينفرد أحدهما بالحكم.
في تلك الطريق الوعرة والشائكة حدثت كوارث كثيرة كتبت تاريخ السودان بدماء ضحايا لا ذنب لهم سوى أنهم يقيمون على أرض قرر المحاربون الطاعنون في القسوة أن تكون منطقة حرام لمعاركهم.
ألا يمكن أن يكون فريق بعينه على حق؟ ولكن ما هي الجهة التي تحدد ذلك الفريق فيما يتم استبعاد المجتمع الذي حلم ذات يوم بعودة العسكر إلى معسكراتهم أو ثكناتهم؟
لقد انصرف المجتمع حين الانتهاء من مرحلة البشير إلى التفكير في مرحلة لا بد أن تكون بداية لتاريخ سوداني جديد. ذلك تاريخ يكتبه الشعب الذي كان مغيبا عبر عقود.
ولكن عيون العسكر كانت مصوبة على الخارج. توهموا أن التطبيع مع إسرائيل سيفتح الأبواب التي كانت مغلقة بسبب العقوبات الأمريكية.
لم يستمر ذلك الوهم طويلا، غير أن أحدا من الحكام الجدد لم يعترف بذلك .
تدهورت آمال العسكر فيما كان الشعب يرنو إلى مستقبل آخر بآمال مختلفة. ولكن السؤال الذي يتعلق بهوية الشعب ضروري لمعرفة تلك الآمال. فبالرغم من أن عمر حسن البشير قد اقتيد إلى السجن فإن مرحلته لم تنته. تحت القشرة يقف الإسلاميون وهم دعاة سودان مختلف عن آمال شعبه في إقامة دولة ديمقراطية مدنية. في الوقت المناسب يخرجون رؤوسهم ليكونوا سادة المشهد.
جزء من الشعب هناك تعرض لعمليات غسل دماغ وهو لا يرغب في قيام دولة مدنية، بل إنه يقاوم قيام تلك الدولة لأنها تتعارض مع المفاهيم التي تعلمها عن الحياة.
لذلك لا يمكن الاستهانة بالبرهان الذي يقود الجيش في حربه ضد قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي. ما فعلته قوات حميدتي لا يمكن غض النظر عنه، ولكن جمهور البرهان الذي يشكل قاعدته لن يتمنى أن تنتهي الحرب الأهلية على أساس لا غالب ولا مغلوب. الحرب فرصة لاستعادة زمن حسن الترابي بكل انحطاطه وتراثه العدواني.
ربما ضحك السودانيون حين سمعوا حميدتي يتحدث عن سودان جديد. بعضهم ضحك لأن هناك تناقضا بين الكلمتين «سودان وجديد»؛ فالسودان من وجهة نظرهم متجذر في ماضويته ولن يكون جديدا. السودان قديم. ذلك هو قدره.
أما البعض الآخر فإنه لا يثق بالعسكر، تجربة عقود من الهيمنة العسكرية أدت إلى خلخلة المجتمع المدني وكسر بوصلته. في حين يضحك سودانيون لأن عقول العسكر لا يمكن أن تستوعب فكرة سودان ديمقراطي مدني بتعددية حزبية تكون أساسا لسياسة جديدة يكشف من خلالها عن انتمائه إلى العصر، من غير الاعتماد على أوهام خارجية.
يدرك السودانيون المتنورون أنه لا يمكن أن تقوم في بلادهم دولة ديمقراطية مدنية ما دام العسكر يمسكون بزمام السلطة. وما الحرب الحالية القائمة في بلادهم إلا انعكاس لتلك الأزمة التي لا يمكن أن تُحل حتى لو انهزم أحد الطرفين.
ليس حميدتي هو الحل، أما البرهان فقد صار فيما يبدو يراهن على الجماعات الإسلامية لكي تكون قاعدته فيما لو خرج من الحرب سالما. وهو ما يعني العودة إلى أزمنة، اعتقد السودانيون أنهم غادروها.
يكذب الطرفان حين يتحدثان عن سودان ما بعد الحرب. وما يحلم به الشعب السوداني إنما يقع في أن تكون الحرب فرصة للتخلص منهما معا. وذلك أمر أشبه بالمستحيل. ذلك لأن جيوشا صارت تعتاش من ذلك الصراع. ما الذي تفعله تلك الجيوش إذا ما تخلى الطرفان عن رغبتهما في الاستمرار في الحرب وسلما السلطة إلى المجتمع ممثلا بأحزاب مدنية؟ تلك خرافة لا يمكن القبول بانضمامها إلى خرافات الواقع السوداني الممتد عميقا في السحر الإفريقي.
يتمنى البرهان وحميدتي ألا يكون هناك سودان بعد الحرب إلا بالصيغة التي تناسبهما، وهي استمرار لزمن التعايش، في محاولة لنسيان ما انتهيا إليه. حينها سيتم نسيان خرافة سودان ديمقراطي مدني جديد كما يتم نسيان سواها من الخرافات.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك