يقول العالم الموسوعي الراحل عبدالوهاب المسيري: «الحضارة الغربية أنجزت ما أنجزت من تقدم من خلال التخلي عن كل القيم الثابتة المطلقة، بمن في ذلك الإنسان ذاته، حينما أصبح التقدم العلمي غاية في حد ذاته لا تحده حدود أو قيود، هذا العلم كان المارد الذي خرج من القمقم، وبدأ يخضع العالم لمنطقه وحركيته وتراكمه، من دون أي اكتراث بالإنسان».
في الوقت الذي لا نستطيع فيه أن نخفي انبهارنا بالحضارة الغربية، وما آلت إليه من تقدم علمي وتقني وتكنولوجي، لا نستطيع كذلك إغفال حقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار، وهي أن هذه الحضارة –التي يفترض أن مسارها من أجل سعادة الإنسان– قد أسقطت بُعدها الإنساني، وأضحت تتجه إلى دمار هذا الإنسان. فالعلم الغربي في ظل الحداثة منزوعة الإنسانية جعل التجريب نهاية في حد ذاته، لا يكترث لآثاره على الإنسان، وبهذا خرج الإنسان من كونه غاية إلى أن يصبح وسيلة يتم توظيفها لتحقيق الإنجاز العلمي.
يركض العلم الغربي لكشف أسرار الذرة، كلما ولج فيها بابا بدت له أبواب أخرى يركض لفتحها وسبر أغوارها، وهو محمود قطعًا، بيد أنه أسقط من حساباته أن الإنسان هو موضوع العلوم ومستهدفها، فتجاهل سلامة الإنسان، وعرّضه لخطر النفايات النووية والأسلحة النووية الفتاكة التي تنذر بدمار هذا العالم.
وحقق العلم الغربي ثورة صناعية مذهلة، لكنه لم يكترث لعواقبها الوخيمة، التي منها ذلك التغير المناخي والتحولات المناخية الطويلة الأجل في درجة الحرارة وأنماط الطقس، التي سببها الأول حرق الوقود الذي ينتج غازات تحتبس الحرارة. ثم لم يبرح الغرب مكانه لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري الذي ينذر بهلاك خمس البشرية بنهاية القرن الحالي وفقا لبعض الدراسات، ويهدد بتحول أجزاء واسعة من الكرة الأرضية إلى مناطق غير صالحة لعيش البشر، وما ذلك إلا لذلك السعار العلمي المتجرد من صبغته الإنسانية، من أجل الفوز في سباق القوة والسيطرة.
ثم تأتي تجارب الهندسة الوراثية كأحد أبرز مظاهر إسقاط البعد الإنساني من العلم الغربي في ظل الحداثة، ففي حين يسعى إلى زيادة إنتاج النباتات وجعْلها أكثر مقاومة للمناخ، يتدخل علم الهندسة الوراثية لإضافة جينات فيروسية أو بكتيرية أو حيوانية في الشفرة الجينية لهذه النباتات، فتنتج عن ذلك أضرار جسيمة للصحة البشرية من خلال ما يعرف بالتلوث الجيني. وهذه النباتات التي تم العبث بها من خلال تجارب الهندسة الوراثية، يطلق عليها «أغذية فرانكشتين» لأنها تضعف جهاز المناعة لدى الإنسان، ويذكر الدكتور المسيري أن أحد العلماء الإنجليز تم طرده لأنه راح يؤكد هذه المقولة؛ فإذا كان هذا تأثير تجارب الهندسة الوراثية على جهاز المناعة، التي من شأنها أن تجعل الإنسان عرضة لأمراض السرطان وغيره، فماذا استفادت البشرية من هذا العلم!
لكن هذا السعار وراء الإنجاز العلمي واعتباره الغاية يطغى على رسالة العلم الذي من المفترض أن يكون لصالح الإنسان ومن أجل سعادة البشرية، ليتحول ذلك الإنسان بالفعل إلى فئران تجارب لا يُعبأ بحياتها، ويغدو المهم نجاح التجربة، وهذا ما كان أبرز دوافع الولايات المتحدة لإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن تجرد العلم من الإنسانية مردّه إلى انفصال النزعة التجريبية عن النزعة الأخلاقية والقيمية، التي جاءت في سياق شامل من التحرر المطلق، فدخلت الحداثة طور الهمجية والبربرية وفق تعبير البروفيسور وعالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران، الذي يرى أن الهمجية المترتبة على الحضارة الغربية فاقت الهمجية القديمة، من ناحية تبلورها إلى همجية ذات وجوه عقلية وتقنية وعلمية، وأن تلك الهمجية الغربية ليست نتاجا للعنف والدمار فقط، ولكنها أيضا لنزع صفة الإنسانية عن الحداثة.
نقد الحضارة الغربية والحداثة لا يعبر عن إجحاف لتلك الحضارة، التي لا شك أنها قدمت الكثير للبشرية ولها جوانب إيجابية لا تُنكر، ولا ننطلق هنا من موقف متشدد تجاه الغرب، فالإسلام رسالة عالمية تعزز المشتركات الإنسانية، وتضع دوائر للالتقاء مع كل البشر، وتتيح الاستفادة من علوم الآخرين بما لا يتعارض مع التشريعات الإلهية؛ والرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في معركة الخندق –أو الأحزاب- لم يجد غضاضة في الاستفادة من تكتيك حربي فارسي في الدفاع عن المدينة، هو حفر الخندق، الذي أشار به الصحابي سلمان الفارسي؛ والخليفة عمر بن الخطاب أخذ بنظام الدواوين كذلك عن الحضارات الأخرى.
إذن، فما جدوى نقد الحضارة الغربية في تجاهلها البعد الإنساني الناجم عن تجردها من البعد القيمي الأخلاقي؟ الغاية من ذلك هي مواجهة هذا الانزلاق الأهوج وراء كل نتاج غربي!
هم سبقونا في التقدم العلمي بمراحل.. نعم، لكن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى استنساخ التجربة الغربية بكل محاسنها ومساوئها، بل ينبغي أن ندرس مشكلات الحضارة الغربية وأزماتها وتناقضاتها، حتى لا نقطع الطريق مستصحبين هذا النموذج بحلوه ومرّه، لنجد أنفسنا أمام تجارب نهضوية خالية من أهم ما ينبغي أن يميزها، وهو الإنسان، الذي أسقطته الحضارة الغربية من حساباتها.
لقد تسربت إلينا فكرة حتمية الانفصال بين العلم والقيم، وبات الحديث عن إقصاء المرجعيات النهائية، المتمثلة في الدين كأبرز مقومات النهضة، حديثا رائجا يلقى الحفاوة من قبل المُختطَفين ببريق الحضارة الغربية، غافلين عن كون هذا الانسلاخ بين العلم والقيم قد دفع الإنسان –ولا يزال– ثمنا باهظا له، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{ كاتبة أردنية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك