في ضوء التحولات الدولية المتسارعة يمكنني أن أتفهم على سبيل المثال طبيعة الظروف التي جعلت حكومة مصر تطلب الآن أو تقبل الانضمام إلى مجموعة البريكس بينما لم تطلب وفى الغالب رفضت عرض الانضمام إليها قبل أكثر من عشرة أعوام.
أفهم أن هذا الأمر في حد ذاته صار يخضع لظرف لم يكن قائما وقتها أو كان في المهد ناشئا. أما الظرف فهو الحالة أو المرحلة التي تمر بها السياسة الدولية وتحتكم إليها أمور عديدة؛ من بينها على سبيل المثال قرار طلب الانضمام إلى مجموعة البريكس أو قرار الموافقة على عرض للانضمام. دعونا نطلق على هذا الظرف حالة أو مرحلة عشنا فيها مع عوامل اجتمعت لتعلن أن عصرا اقتربت نهايته وأن العد العكسي لها قد بدأ منذ حين ومستمر.
أولا: مفردات هذا العد العكسي أراها على النحو الآتي:
- القطب الأمريكي المهيمن في نظام ثنائي القطبية يستمر مهيمنا ولكن منحدرا في نظام دولي أحادي القطبية بعد انفراط الاتحاد السوفيتي.
- أوروبا الجديدة تتوسع مساحة وتضعف ترابطا ونفوذا. فقدت أوروبا بريطانيا وانحدرت هيبتها السياسية كقوة دولية وعادت في نظر العالم تابعة لأمريكا في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا. تكاثرت فيها الشقوق وتعددت مواقع المكانة. فقدت دول جنوب أوروبا بعض نفوذها بسبب خلافاتها وأزماتها الداخلية وتصعد محلها دول الشمال الصغيرة في أحجامها والكبيرة في طموحاتها وانشغالاتها بالتهديد الروسي والاستعداد له.
- تحت وقع الحاجة إلى مواد خام بعينها أو الاعتماد الزائد على بعضها واحتكاما إلى قواعد المنافسة مع روسيا من ناحية والصين من ناحية أخرى عادت أوروبا خاصة والغرب عامة إلى سباقه المعتاد على إفريقيا. أثار السباق بعودته واحتمالات الصدام بين أطرافه مشاعر قوية في دول إفريقية عديدة ضد الغرب العائد باستعماره القديم متجاهلا ما عانته إفريقيا في السابق ووعيها الجديد في الحاضر.
- انكشفت مرة أخرى نواحي ضعف الإمبراطورية الروسية، هذه المرة تحت حكم رجل فرد ونظام رأسمالي مختلط وبيروقراطية تقليدية وبسبب الانجرار وراء تهديد نية الغرب الاستمرار في توسع حلف الأطلسي نحو أقرب الحدود إلى قلب روسيا. يعرفون في الغرب كما نعرف أن روسيا قوة أخطر إذا ضعفت وفي ترسانتها آلاف القنابل النووية.
- على الناحية الأخرى من الكوكب تألقت في الفترة نفسها صحوات في بعض جوانب حيوية في ثقافات وحضارات دول في آسيا والجنوب الجديد. تألقت في الصين وتتألق في الهند وتنفض التراب عن نفسها جماعات من السكان الأصليين في أمريكا الوسطى والجنوبية. نكاد في الوقت نفسه نلحظ حنينا في كل من إيطاليا واليونان وتركيا لاستعادة هوية تميزها عن غيرها من هويات في دول أكثرها منحدر.
- أتصور أن إسرائيل تجتاز مرحلة عسيرة لسببين على الأقل؛ السبب الأول يتعلق بفشل القائمين على شؤونها في خلق وحدة في جماعة بشرية بصفات خاصة لم يعرف عنها التوحد إلا نادرا. وقد كشفت الأسابيع الأخيرة عن عمق الخلافات داخل هذا المجتمع واحتمالات الزيادة المطردة في تعمقها. أما السبب الثاني فيتعلق بالعلاقة العضوية التي تربط دولة إسرائيل بالولايات المتحدة في زمن انحدار الأخيرة، وخاصة أن هذا الانحدار مرشح للاستمرار على الأقل إلى حين يستقر أمر وشكل النظام الدولي الجديد. إن دولة صغيرة اعتمدت منذ نشأتها على دولة عظمى في حروبها وتسليحها وتصنيعها سوف تجد مع حال انحدار هذه الدولة العظمى صعوبة شديدة في استمرار وضعها كقوة صغيرة تعمل على الهيمنة على الشرق الأوسط. البدائل ليست كثيرة ومنها أن توفر لنفسها عناصر قوة ذاتية أو تحالفات إقليمية تعوض بها ما غاب أو تعثر من الدعم الأمريكي، وهو بالفعل ما تحاول عمله الآن وبالسرعة الممكنة.
- دول صناعية غير قليلة العدد شاخت شعوبها إلى حد يمكن أن يعيق انتقالها إلى اقتصاد الذكاء الاصطناعي وغيره مما تحمله الثورة الإلكترونية للبشرية ولم تكشف عنه بعد. حتما سوف تزداد حاجة هذه الدول إلى هجرات شبابية واسعة بكل ما يمكن أن تحمله هذه الهجرات من مشكلات اجتماعية وسياسية. المثال البارز يكشف عنه الجدل الدائر في اليابان؛ إذ إن الفائض الشبابي الذي يمكن استجلابه يوجد في كوريا الجنوبية وأقاليم آسيوية أخرى، حيث تكمن أسوأ الذكريات عن أساليب قاسية تعامل بها الجيش الياباني ورجال الأعمال اليابانيون مع عمال ونساء هذه الأقاليم.
- ليس سرا ولا خافيا على علماء السياسة ومحلليها حقيقة أن السياسيين في أغلب دول العالم الصناعي والنامي على حد سواء أثبتوا نقصا في الجدارة أو في الحكمة أو في الفراسة أو فيها جميعا خلال هذه العقود الأخيرة. وليس سرا ولا خافيا أن الأمور السياسية في دول غير قليلة العدد راحت مسؤوليتها الحقيقية في الحكم تنتقل شيئا فشيئا من أيدى السياسيين إلى أيدى مجالس إدارة شركات التكنولوجيا العملاقة أو إلى أيدى قادة المؤسسات والصناعات العسكرية.
ثانيا: لهذه الردة في كثير من تفاصيل السياسة الدولية خلال العقود الأخيرة كلفة باهظة تحملتها البشرية، ولا تزال. تراوحت الكلفة ولا تزال تتراوح بين الحرب والمجاعة والهجرة إلى انحسار في التزام الحقوق والحريات. أتحدث هنا عن حرب أوكرانيا على روسيا وحرب روسيا على أوكرانيا وعن توابعهما مثل الاستعداد لحروب مكملة أو مشتقة في شمال أوروبا تشترك فيها مولدوفا وفنلندا والسويد وليتوانيا وتقودها بولندا ضد بيلاروسيا.
أتحدث أيضا عن أزمات نقص في المواد الغذائية الضرورية مثل الحبوب واللحوم والزيوت وبخاصة في إفريقيا. أتحدث عن فساد عارم نتيجة لضخامة عمليات تمويل الحرب ضد روسيا وارتفاع الأسعار ونتيجة فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وعديد الدول لأسباب بعضها تافه وأكثرها متسرع وغير مجد.
أتحدث عن أن أجواء الحرب في السياسة الدولية تسرب إليها التهديد باستعمال أسلحة نووية تكتيكية أو الأشد تدميرا. أتحدث هنا أيضا عن زيادة في عدد الدول الساعية لبناء مفاعلات نووية لأغراض سلمية ولكن مع الإصرار الصريح أو المكتوم على الحق في حرية أوفر في إدارة عمليات وتحديد نسب التخصيب.
أتحدث عن موجة جديدة من الانقلابات العسكرية في إفريقيا والعالم النامي عموما وعن انسداد متزايد في مسالك الحياة الاقتصادية في دول عديدة. أتحدث بخاصة عن أزمات خطيرة تكاد تشل السلوك السياسي لعدد من الدول العربية وبالتحديد في اليمن وسوريا والعراق وليبيا والسودان ولبنان لأسباب لم يعد أغلبها مفهوما ولا مقبولا إلا إذا وضعناها ضمن جداول العد العكسي لحلول نظام دولي بمعايير وقواعد جديدة.
ثالثا: لن أكون أول ولا آخر من يحذر من أن تصبح فلسطين ضحية الانشغال بمتغيرات وظروف هذه المرحلة البائسة في السياسة الدولية. إذا كانت الجامعة العربية عاجزة عن توفير إرادة موحدة لموقف حاد وحاسم فلتتصرف الدول الأعضاء بإرادات متفرقة ولكن حادة وحاسمة.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك