في عام 1980 غنّى داود القيسي، وهو مطرب سياسي قُتل أثناء الفوضى التي تبعت حرب تحرير الكويت عام 1991، أغنية ارتكز موضوعها على جملتها الأولى التي تقول «اتلتعش مليون نخلة» (13 مليون نخلة). ذلك الرقم يشير إلى عدد سكان العراق يومها. كان صدّام حسين هو زعيم أولئك الـ13 مليون شخص الذين أخذهم إلى الحرب وقاتل بهم 8 سنوات.
13 مليون متعلّم في دولة نجحت فيها خطط التنمية البشرية والصناعية والزراعية، بعدما اكتملت عناصر البنية التحتية على أفضل وجه. تسلّم الرئيس العراقي عام 1979 بلداً نموذجياً. شعب قليل ومتعلّم ولا يعاني من الفقر والبطالة، وفائض مالي قُدّر بـ65 مليار دولار، واكتفاء ذاتي على مستوى الغذاء، وكانت الدولة مسؤولة عن استيراد كل ما يحتاج إليه المواطن من الإبرة حتى السيارة، بحيث كانت الأسواق متخمة بالبضائع الاستهلاكية، إضافة إلى أنّ المصانع المحلية كانت تضخ بضائع بأرقى المواصفات العالمية.
أليس هذا ما كان يحلم به صدام حسين يوم كان نائباً للرئيس، والشخص الذي يحظى بشعبية لم يحظ بها أي زعيم عراقي سبقه؟ غير أنّ انتقاله إلى موقع الرجل الأول في الدولة كان خطأً تاريخياً سيدفع ثمنه الشعب العراقي باهظاً. قبله سيخسر حزب البعث الحاكم نصف قيادته، في مجزرة قاعة الخلد التي تُذكّر بما فعله محمد علي باشا في مصر بالمماليك.
في حرب الثماني سنوات مع إيران (1980-1988) خسر العراق حوالي مليونا من شبابه بين قتيل وجريح وأسير ومفقود. أما احتياط العراق النقدي الملياري فقد احترق وخرج العراق غارقاً بديون ضخمة لم يكن في إمكانه تسديدها، إضافة إلى أنّ بنيته التحتية أصابها الكثير من الضرر.
غير أنّ اللافت أنّ عدد سكانه قد ارتفع إلى أكثر من 16 مليون نسمة بحسب إحصاء عام 1987. كان الرئيس العراقي بعدما تأكّد أنّ حربه مع إيران ستطول قد أصدر قرارات لتشجيع زيادة النسل. فتح الباب على تعدّد الزوجات، كما خصّص مكافآت لمَن يتزوج زوجة شهيد. وبالرغم من أنّ قطاعي التعليم والصحة لم يتأثرا كثيراً بالحرب، غير أنّ العراق كان في حاجة إلى قوى عاملة في الزراعة والصناعة، وهو ما فتح الباب للاستعانة بعمالة عربية، فبدأت هجرة مصرية غير منظّمة، حيث قدّر عدد المهاجرين المصريين بأكثر من 3 ملايين، ويصل البعض بها إلى 7 ملايين. كانت العمالة الوافدة حلاً لمشكلات كثيرة، في الوقت الذي كانت فيه حاجة الجيش إلى استدعاء الاحتياط مفتوحة، الأمر الذي أحدث نقصاً كبيراً في قوة العمل العراقية، كان يجب تعويضه. وبالرغم من كثرتهم، فإنّ المصريين لم يعانوا من التمييز.
عام 1997 كان عدد سكان العراق 19 مليوناً. كان العراق يومها يعاني من الحصار الدولي الذي حوّله إلى دولة رثة، كانت عبقريات تِقَنِيّيها تسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البنية التحتية، وخصوصاً على مستوى الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب. غير أنّ العراقيين كانوا ينزلقون إلى خط الفقر وما تحته. لم يكن نظام صدام حسين قادراً على التصدّي لمشكلات 19 مليون شخص، وهو ما اضطره إلى القبول ببرنامج النفط مقابل الغذاء عام 1995. كان ذلك البرنامج غير كاف لشعب كان جزء مهما من ثروته يذهب إلى صندوق التعويضات الكويتية. ومع الغزو الأمريكي انهارت البنية التحتية كلها، ولم تقم بعدها أي محاولة لانتشالها عبر العشرين سنة الماضية.
حدث ذلك مقابل ارتفاع مجنون في عدد السكان الذي وصل عام 2023 إلى أكثر من 45 مليون نسمة. وفي ظلّ فشل الحكومات العراقية المتعاقبة في معالجة مشكلات البنية التحتية، تحوّلت بغداد العاصمة على سبيل المثال إلى ما يشبه مملكة النمل، بعدما ارتفع عدد سكانها من 3 ملايين إلى 10 ملايين. كما أنّ مدن الجنوب التي لم تشهد حروباً داخلية كتلك التي شُنّت على تنظيم «داعش» في الموصل ومدن غرب العراق تبدو هي الأخرى مدناً منكوبة تتقاسم السلطة فيها الأحزاب والمليشيات التي ترعى مصالحها بالتقاسم مع الحكومات المحلية.
مع الزيادة غير الطبيعية للسكان عبر أكثر من 40 سنة من الفوضى، لا بدّ من أن يختلّ الميزان حتى لو لم يشهد العراق حروباً، فكيف به وقد تعرّض لتدمير شامل ضرب كل البنى التحتية، رافقه تراجع بالثروات الطبيعية في مقدّمها المياه في نهري دجلة والفرات، مع انهيار قطاعي الزراعة والصناعة بشكل شبه كامل.
طوفان بشري في مقابل فساد غير مسبوق عالمياً، لا يمكن سوى أن يُنتجا أفقاً مسدوداً يمكن أن يقفز بمعدلات الفقر إلى أعلى من 30 في المائة من السكان، كما أنّ 4 ملايين عاطل عن العمل قد لا يكون رقماً حقيقياً إذا ما أضفنا إليه ملايين الموظفين ومنتسبي القوات المسلحة والأمنية ومقاتلي المليشيات الوهميين، الذين يستنزفون إيرادات النفط من غير أن يكونوا موجودين على أرض الواقع.
شيء من هذا القبيل لا بدّ من أن يؤدي إلى اتساع المدى الذي تنتشر فيه العشوائيات التي تتحقق من خلالها عودة العراق إلى العصر الحجري، وهو ما وعد به الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم قاد حملته العسكرية عام 1991.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك