منذ أن سيطرت حركة طالبان على أفغانستان أواخر عام 2021، عقب انسحاب فوضوي لا إنساني للقوات الأمريكية وحليفاتها، بقيادة الولايات المتحدة، والانهيار السريع للحكومة الأفغانية؛ أخفق صناع السياسة الغربيون في صياغة استراتيجية متماسكة لدعم جهود الإغاثة الإنسانية بالبلاد، وحماية حقوق الإنسان، ومعالجة التهديدات الأمنية المستمرة، في ظل عدم الاعتراف بالحركة كحكام شرعيين على المستوى الدولي.
ومع إحكام الحركة قبضتها على السلطة، تسببت الأزمة الاقتصادية في «كارثة إنسانية» في أفغانستان. وفي ضوء توضيح «الأمم المتحدة» عام 2022، أن «أكثر من ثلثي الأسر ليس بمقدورها تحمل تكاليف الغذاء والمواد الأساسية»؛ أشارت «باتريشيا جوسمان»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، إلى «الخيارات الصعبة» أمام المؤسسات والحكومات الغربية في تفاعلاتهم مع النظام في كابول، مع الحاجة المزدوجة إلى تقديم المساعدة لمن يحتاج إليها في البلاد -التي يلزم تقديمها التعاون مع الحركة– وضرورة الاستمرار في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي الوقت الحالي، تختلف الرؤى الغربية، بشأن تقديم جهود الإغاثة للذين يحتاجون إليها بشكل عاجل، وبين التعامل مع الحركة غير المعترف بها دوليا. ويعكس هذا الانقسام الاستطلاع الذي أجرته مجلة «فورين أفيرز»، وشمل 48 أكاديميًا وخبيرًا، أيد 12 منهم تطبيع «واشنطن» العلاقات مع طالبان، وامتنع 6 عن التصويت، وعارض 30، بينما اعترض 21 منهم على اقتراح إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع النظام في كابول.
وعن كيفية القيام بذلك، يرى «غرايم سميث» و«ديلاني سيمون»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، «وجوب تجنب الدول الغربية دفع أفغانستان إلى العزلة، من خلال العقوبات الاقتصادية، والقيود المفروضة على طالبان، وعوضًا عن ذلك، يجب تسهيل طريق البلد نحو الانتعاش الاقتصادي». في حين أكد المعارضون لإقامة علاقات –مثل «مايكل ماكينلي» سفير «الولايات المتحدة» الأسبق لدى أفغانستان–السجل الشائن للمتشددين في مجال حقوق الإنسان، واستعبادهم للنساء، والفتيات، واستمرار صلتهم بالمنظمات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة.
ويتفق المراقبون على أنه عقب مرور عامين من استيلائها على «كابول»، فمن غير المتوقع أن تنهار قبضة طالبان على السلطة. وأوضح «جاويد أحمد» من «المجلس الأطلسي»، و«دوغلاس لندن» الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية، أن قبضتهم «الصارمة» على الحكم «أصبحت الآن حقيقة لا يمكن إنكارها»، وأنه مع كونهم «تحالفا غير مستقر من الدينيين، والبراغماتيين السياسيين، ولا يمكن التنبؤ بقراراتهم»؛ فقد تمكنوا من تعزيز سلطتهم، وقاوموا محاولات إزاحتهم.
وعلى الرغم من اعتراف «ماكينلي» بأن «الأمن بالنسبة إلى معظم الأفغان أفضل من أي وقت مضى، فإن «لجنة الإنقاذ الدولية» أشارت إلى انسحاب المانحين الدوليين في أعقاب استيلاء طالبان على السلطة؛ ما أدى إلى «دفع السكان بأكملهم إلى الفقر». وأشار «سميث»، و«سيمون»، إلى العدد الكبير من البنوك، والوكالات، والمؤسسات «المترددة» في العمل في البلاد؛ خوفًا من «خطر السمعة، وتكاليف الإذعان لطلبات النظام، والغرامات بسبب انتهاك العقوبات». وبناء عليه، باتت المحصلة افتقار المواطنين إلى إمكانية الوصول إلى النظام المالي الدولي»، وتضاعف معدل سماسرة الأموال غير الرسمية، وارتفاع أسعار الغذاء، والوقود، والأدوية، وغيرها من الضروريات.
علاوة على ذلك، يحظى «تراجع حقوق المرأة» في ظل حكم طالبان باهتمام كبير في التغطية الغربية. وفي مارس 2022 تم منع الفتيات من الالتحاق بالمدارس الثانوية. وفي وقت لاحق من العام قيدوا وصول النساء إلى المتنزهات، والمرافق الصحية، والأماكن العامة الأخرى. وأشار «المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان» إلى كيفية «محو 20 عامًا من التقدم» في مجال الحقوق، منذ استيلاء الحركة على السلطة. وأوضحت «مجموعة الأزمات الدولية» أن «القيود الجديدة» عام 2023 «وجهت ضربة موجعة لحريات المرأة، وعطلت أكبر عملية مساعدات في العالم».
وحتى أغسطس 2023، لم تقم أي دولة علاقات دبلوماسية «رسميًا» مع طالبان، على الرغم من أن «ماكينلي» أشار إلى أن «الصين» و«روسيا» «اتخذتا خطوات نحو إقامة العلاقات»، فضلا عن أن «الاتحاد الأوروبي»، و«اليابان»، و«الهند»، و«الأمم المتحدة»، قد «اتخذوا خطوات»، لإعادة فتح البعثات الدبلوماسية، أو الإبقاء على الموجود منها في كابول». فيما تمت الإشارة إلى لقاء المسؤولين الأمريكيين «بشكل دوري» مع نظرائهم من طالبان؛ سعيًا لتحقيق أهداف إنسانية وحقوقية ومكافحة الإرهاب. وفي يوليو 2023، التقى «توم ويست»، الممثل الأمريكي الخاص إلى أفغانستان، بوزيري خارجية ومالية الحركة في قطر؛ لمناقشة المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان والأمن.
ويقدم المطالبون بزيادة المشاركة الدبلوماسية بين «الغرب»، و«طالبان»، «حججا رئيسية»، تتعلق بضرورة الاعتراف بالواقع على الأرض، وتعظيم الجهود الرامية إلى تقديم المساعدات الإنسانية. وأوضح «أحمد»، و«لندن»، أن «الوقت قد حان للاعتراف بالحركة كحكام لأفغانستان، وخاصة أن جعلها دولة «معزولة»، سيكون له «عواقب وخيمة على الجميع، وعلى الأفغان أنفسهم»، كما أن غياب الوجود الدبلوماسي لواشنطن يتركها «عاجزة عن التأثير على التغيير». وأوضح «سميث»، و«سيمون»، أنه على الرغم من أن نظام طالبان «يستحق الإدانة»؛ بسبب تقييده لحقوق الإنسان –وخاصة النساء والفتيات– فإنه «لتجنب الكارثة» يجب على الدول الغربية «تقبل الأمر الواقع، والتوقف عن تقييد فرص أفغانستان في التنمية»، و«الشعور بالواجب تجاه المساعدة في إصلاح البلاد».
علاوة على ذلك، أشارت «بريدجيت كوجينز»، من «جامعة كاليفورنيا»، إلى نظر «واشنطن»، فيما «إذا كانت المشاركة الدبلوماسية ستحسن حياة أولئك الذين تركتهم خلفها عندما انسحبت»، باعتبارها «ضرورة إنسانية». وأوضح «إليوت أكرمان»، في مجلة «أتلانتيك»، أن «التطبيع يجب أن يتم على أساس أطر مشروطة، توافق بموجبها طالبان على الالتزام بالمعايير الدولية، فيما يتعلق بحقوق الإنسان»، و«التوقف عن إيواء المنظمات الإرهابية الدولية». وأشارت «جاكلين هازلتون»، من «كلية هارفارد كينيدي»، إلى أن «السبب الوحيد لاستمرار واشنطن في تجنب الحركة هو «اغترارها بنفسها أو العُجب بأن معتقداتها وأفعالها ذات فضيلة أعظم من غيرها».
وبناء على هذا السبب، أصر «أحمد»، و«لندن»، على أن التقارب الغربي مع طالبان «لا يعني الصداقة، ولا الموافقة على سياساتها، وأفعالها؛ لكنه يوفر (فرصًا)، أكبر للجانبين، من المساحة التي تتيحها الولايات المتحدة في الوقت الراهن»، مؤكدين أن الاعتراف بها يجب أن يقترن بـ«شروط»، و«متطلبات سياسية، وأمنية»، بما في ذلك «الحفاظ على سلامة الموظفين الأجانب الذين يعملون في البلاد».
في مقابل ذلك، استشهد معارضو إقامة علاقات رسمية مع طالبان بسجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان، وارتباطها بالجماعات الإرهابية حتى مع وصولها إلى الحكم. وأشار «ماكينلي» إلى أنه على الرغم من أن المحادثات غير الرسمية بين المسؤولين الأمريكيين ومسؤولي طالبان، حول الأهداف المشتركة، «يجب أن تستمر»؛ فإن الوقت الذي يجب على «واشنطن»، فيه أن يكون لها وجود دبلوماسي كامل في كابول «لم يحن بعد»؛ لأنه لا يوجد «مؤشر» على أن القيام بذلك سيكون له «تأثيرات إيجابية».
وبشكل خاص، تمت الإشارة إلى تقليص الحركة لحقوق المرأة. ويرى «كينيث روث»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، أن إقامة علاقات دبلوماسية معها ستكون بمثابة موافقة غربية على «إبعاد النساء والفتيات عن المشاركة في معظم جوانب الحياة العامة». وأشار «ماكينلي» إلى أن «الضغط الدبلوماسي من الدول الأخرى والمنظمات الدولية» «لم يمنعها من محو حقوق الفتيات»، وأنه «من الصعب تصور ما سيمثله الوجود الأمريكي الرسمي في كابول»، لكونه قد يعبر عن «التأييد التكتيكي للاستبداد الثيوقراطي المتعمق لطالبان».
ومع ذلك، رأى «سميث»، و«سيمون»، أن رغبة بعض المسؤولين الغربيين في «عرقلة مساعدات التنمية، وتشديد العقوبات، وعزل أفغانستان بشكل أكبر»، لإضعاف قبضة طالبان على السلطة؛ «لن تؤدي إلا إلى الإضرار بالمواطنين، دون تغيير موقف الحركة». وأشار «جيسون ليال»، من جامعة «دارتموث»، إلى أن التطبيع الأمريكي مع طالبان مرهون بتنفيذ وعودها بإعادة فتح المدارس والجامعات للفتيات، وإنهاء «حالة الفصل بين الجنسين» بشكل نهائي.
ومع الانقسام حول مسألة ما إذا كان ينبغي التعاون مع طالبان لمساعدة الشعب الأفغاني بشكل أفضل، اقتُرح أيضًا «طريق وسط»، لتحقيق نوع من التقدم التدريجي. وأشار «رونالد نيومان»، في صحيفة «ذا هيل»، إلى أن «نهج واشنطن الحالي المتمثل في العقوبات وتقييد الاتصال غير ناجح تمامًا»، ودعا إلى «تبني نهج أكثر محدودية، يعتمد على تحقيق مبادئ تتمحور حول «التوصل إلى خطوات تدريجية؛ بهدف تحقيق بعض التقدم ببطء، ربما لبناء ثقة طالبان في أن المفاوضات يمكن أن تكون ذات جدوى في النهاية».
وعلى وجه الخصوص، أيد فكرة «تقديم مساعدات محدودة وموجهة، شريطة تحقيق بعض التقدم» في مجال حقوق الإنسان، مثل قيام الحركة بالسماح للنساء بالعمل بشكل أكبر في مجال الصحة، أو التعليم»، مع تأكيد وجود «المراقبة الدقيقة» لجهود كابول، وامتثالها لهذا الأمر. ووفقًا له، فإن هذا النهج من شأنه أن يوفر «مكافأة محدودة واضحة لجهودها»، دون «ضمان اتخاذ المزيد من الخطوات».
وعلى نحو مماثل، نفت «كيت بيتمان»، من «معهد السلام الأمريكي»، تطبيع «واشنطن» لعلاقاتها مع طالبان في «الأمد القريب»؛ لكنها أوضحت أن الغرب ينبغي أن «يوسع مشاركته»، و«يشجع الدول الأخرى على القيام بذلك»، داعية إلى «إطار عمل متعدد المسارات»، ودعوة المسؤولين الأمريكيين إلى «التحدث مع طالبان حول القضايا الملحة»، مثل «الأمن المائي، ومراقبة الحدود، ومكافحة الإرهاب، ومنع تهريب المخدرات، والأمن الغذائي»، وهي القضايا التي لن تساعد فقط الأفغان فحسب، لكنها أيضًا «ستفتح الباب أمام نوع ما من العلاقات الثنائية البناءة».
ومع استمرار النقاش حول مزايا وعيوب التعاون والحوار مع النظام في «كابول»، ورغم أن معسكر التقارب آخذ في النمو؛ فإن المراقبين متفقون على أن احتمالات تغيير الحركة المسلحة أساليبها أمر «بعيد المنال». واعترف كل من «سميث»، و«سيمون» بأنه «لا توجد طريقة واقعية لإرغامها على تغيير سياساتها». وأشار «ماكينلي» إلى أنه «لا يوجد دليل على أن سياساتها تتأثر بالضغوط الخارجية»، ومن ثم «لا ينبغي انتظار تغيير مسارها بشأن حقوق الإنسان». وبالنسبة إليه، فإن «تعميق العلاقات لن يؤدي إلى اعتدال مواقف حكام أفغانستان المسلحين.
من جانبها، أصرت «بيتمان» على أن النهج «الأكثر صبرًا» «يوفر أفضل فرصة لرؤية تغييرات إيجابية تدريجية». أما ما يتعلق بمجال السياسة الداخلية الأمريكية، وتحديدًا تعرض الرئيس «جو بايدن» لضغوط من الانسحاب الفوضوي عام 2021؛ فقد أشار «ماكينلي» إلى أن أي تحرك لإقامة علاقات مع طالبان سيؤدي إلى «ردود فعل سياسية عكسية في الداخل»، قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2024.
على العموم، يجب تأكيد أنه حتى لو حاولت «واشنطن» والدول الغربية الأخرى إقامة علاقات رسمية مع طالبان، فإن الشكوك العميقة، وحالة العداء بين الجانبين، ستظل «قائمة»، مع قدرة الدول الغربية على ممارسة الضغط على «كابول»، لتخفيف وطأة سياساتها التقييدية لحقوق الإنسان، وهو التكتيك الذي أثبت أنه غير مقنع حاليًا للعديد من الأطراف المعنية.
ومع ذلك، إذا قرر صناع السياسة الغربيون تغيير استراتيجية التعامل مع الحركة، فقد نصح «نيومان» بالقيام بـ«استعدادات دقيقة». وعلى النقيض من قرار «واشنطن» الأحادي بسحب قواتها من أفغانستان، يجب «مناقشة فكرة التطبيع مع أطراف ثالثة وسيطة، وفي المؤتمرات الدولية»، وذلك «لإيصال رسالة إلى طالبان مفادها أن الولايات المتحدة تفكر في التغيير»، وبعد ذلك الاستفادة من «جهود الوساطة الموثوق بها»، لاستكشاف المزيد من فرص العمل، والتعاون، وربما تحسين العلاقات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك