يقول المفكر الإداري العظيم «بيتر إف دراكر» الذي يعتبر علما من أعلام الإدارة في العصر الحديث في كتابه الشهير (أفكار دراكر في الإدارة)، وخاصة ما قاله في المذكرة الثانية التي وردت تحت عنوان (استشراف المستقبل)، وكانت مكتبة جرير السعودية المعروفة قد نشرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2006، إن علماء الدراسات المستقبلية يقيسون نجاحاتهم بعدد الأشياء التي توقعوا حدوثها وحدثت بالفعل، ولم يحسبوا تلك الأشياء المهمة التي تحققت ولكنها لم تكن ضمن توقعاتهم.
ربما يتحقق كل ما يقوله مستشرفو المستقبل، ولكنهم ربما يغفلون أهم الأشياء في الحقائق الواضحة الماثلة أمامهم، والأسوأ من ذلك أنهم قد لا يعيرونها أي اهتمام.
ويتابع دراكر: نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الأخطاء التي تحدث عند توقع المستقبل، فالأشياء المهمة والمميزة دائما ما تكون نتيجة تغيرات في القيم، والمفاهيم والأهداف، أي أنها تكون في الأشياء التي يمكن استنتاجها وليس التنبؤ بها.
ويضيف دراكر: ولكن أهم عمل يمكن أن يقوم به مدير المؤسسة هو تحديد التغيرات التي تطرأ بالفعل، فالتحدي الأساسي الذي يواجه المجتمع بمجاليه الاقتصادي والسياسي هو استغلال هذه التغيرات التي تطرأ بالفعل كفرص سانحة، فالشيء المهم هو توقع المستقبل مما يحدث بالفعل ثم تنمية المناهج التي تمكنه من إدراك وتحليل هذه التغيرات.
ويختم دراكر مذكرته باقتراح إجراء عملي لمديري المؤسسات التي تبتغي التقدم والترقي: حدد الاتجاهات الرئيسية التي تظهر بالفعل في السوق، واكتب ورقة عن احتمالية استمرار تلك الاتجاهات ومدى تأثيرها على حياتك ومؤسستك.
العالم من حولنا يتحول ويتغير، وقد دفع هذا التغير البعض من الخبراء في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من اليهود الأمريكيين إلى القول: «عام 2023 هو نقطة تحول لصالح فلسطين في السياسة الدولية» هذا عنوان مقالة للخبير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكثر من 40 عاما (ميخائيل بلتنيك) نشرت باللغة الإنجليزية على موقع موندويس الأمريكي يوم الجمعة الموافق 18 أغسطس 2023.
وقد بنى بلتنيك توقعه هذا تأسيساً على ثلاثة متغيرات؛ الأول منها يتعلق بحقيقة أن إسرائيل قد كشفت كدولة فصل عنصري «أبارتهايد» الوسم الذي تزداد قناعة الرأي العام العالمي بما في ذلك الرأي العام اليهودي في كل لحظة وكل يوم. ويستطرد بلتنيك قائلاً إن المظاهرات التي تحدث أسبوعيا في إسرائيل مطالبة بالديمقراطية ووقف الانقلاب على المؤسسة القضائية تؤكد أن إسرائيل هي دولة عنصرية، ولا سيما أنها تطالب بالديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط، حيث لا تسمح للمواطنين الفلسطينيين بالصعود إلى منصة الخطابة والمطالبة بحقوقهم.
وتجدر الإشارة في هذا الشأن إلى حقيقة أن اقتران اسم إسرائيل بالأبارتهايد على الشبكة العنكبوتية يزيد على 11 مليون مرة في الأسبوع الواحد طبقاً لموقع سيمراش(Semrush) ؛ في حين أن عدد هذا الاقتران لم يتجاوز 50 مرة في الفترة الممتدة من عام 1948 حتى عام 2000 بحسب مذكرة نشرتها مجلة تقييم استراتيجي الصادرة عن معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي قبل سبع سنوات.
أما المتغير الثاني فيدور حول التغيرات الدراماتيكية الآخذة بالازدياد على صعيد الحزب الديمقراطي الأمريكي ودعمه لإسرائيل، إذ تظهر تقارير أخرى أنه لم يبق داعماً لإسرائيل في هرم قيادة الحزب إلا رأس الهرم فقط، أما قاعدته ووسطه فقد حسموا أمرهم نحو إسرائيل، ومن المتوقع أن يحسم هذا الأمر بالكامل لصالح الحق الفلسطيني خلال عقد من الزمان.
ويتعلق المتغير الثالث بصعود الصين ونهاية حقبة القطب الواحد، ومطالبتها؛ أي الصين وشركائها من القوى الصاعدة، لقيادة النظام العالمي برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تجلى أيما تجل في البيان الختامي لقمة بريكس قبل عدة أيام.
في الختام، أجادل أن الشعب الفلسطيني لا يخفى عليه، ولا سيما في هذه اللحظة من الزمن، «أن العدل وحده لا يسير عجلات التاريخ»، كما قال شاعرنا العظيم محمود درويش في وثيقة إعلان استقلال فلسطين عام 1988، ولا يخفى كذلك على حركة «فتح» صاحبة الوطنية الفلسطينية، وقيادتها وقد أعلنت قرارها بعقد مؤتمرها الثامن في نهاية العام الجاري، أن استغلال واستثمار ما تنطوي عليه التغيرات في البيئة الاستراتيجية الفلسطينية من فرص تفرض عليها عدم إنتاج الماضي واختيار المؤهلين الأكفاء القادرين على فهم وإدراك اللحظة والبناء على ما قاله (ميخائيل بلتنيك) في مقالته.
{ باحث في شؤون الأمن القومي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك