إن تحقيق السلم والأمن الدوليين هو أحد أهم وأنبل الأهداف التي سعى العالم لتحقيقها على مر العصور، لكن الجهود التي بذلت على هذا الصعيد واجهت، ولا تزال، صعوبات جمة؛ فعقب نشأة الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر ساد تصور مفاده أنَّ العلاقات الدولية ينبغي أن تُبنى على قاعدتي السيادة والمساواة بين الدول.
وتعني قاعدة السيادة أن الدولة شخصية مستقلة لا تخضع في تصرفاتها لأي سلطة أعلى منها، ومن ثم يحق لها أن تدافع عن مصالحها بكل الوسائل التي تراها ضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة إذا لزم الأمر. أما قاعدة المساواة فتعني أن كل الدول تتساوى أمام القانون، ومن ثم ينبغي أن يكون لها الحقوق نفسها، وأن يكون لديها الواجبات نفسها.
واستناداً إلى هذه الرؤية، ساد اعتقاد مفاده أن السلام والأمن الدوليين يمكن أن يتحقّقا استناداً إلى مبدأ «توازن القوى»، ما يعني أن باستطاعة كل دولة تحقيق أمنها اعتماداً على قواها الذاتية أو بالاستناد إلى تحالفاتها الخارجية.
وقد ترتب على هذه الرؤية بروز ظاهرتين على جانب كبير من الخطورة؛ الأولى هي اندلاع التنافس بين الدول القوية، وخصوصاً الأوروبية منها، على تكوين إمبراطوريات استعمارية، والأخرى هي سباق متواصل للتسلح جعل من إمكانية الوصول إلى نقطة التوازن المطلوبة لتحقيق السلام والأمن الدوليين هدفاً بعيد المنال، وأدى في نهاية المطاف إلى اندلاع حربين عالميتين عانت منهما البشرية أشد المعاناة.
أمام هول الدمار الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بدأ قادة العالم يقتنعون بمبدأ «توازن القوى» لتحقيق السلم والأمن الدوليين تلقائياً، ومن ثم راحوا يفكرون في إدارة العلاقات الدولية من خلال إطار مؤسسي يستهدف تحقيق «الأمن الجماعي»، وهو ما يفسر نشأة «عصبة الأمم» في ذلك الوقت.
وعندما فشلت في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثانية، حلت محلها منظمة «الأمم المتحدة»، غير أن الممارسة الفعلية أثبتت حجم الصعوبات التي تكتنف تطبيق مبدأ الأمن الجماعي. صحيح أنَّ تجربة «عصبة الأمم» شكلت نقلة نوعية في مجال «مأسسة» العلاقات الدولية، غير أنها كانت تجربة قصيرة انتهت بالفشل في تحقيق السلم والأمن الدوليين.
وصحيح أيضاً أنَّ تجربة «الأمم المتحدة» لا تزال قائمة ومستمرة حتى الآن، لكن استمراريتها لا تقوم دليلاً على نجاحها في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثالثة، لأن الواقع يشير إلى أن «توازن الرعب النووي»، وليس فاعلية الأمم المتحدة، هو ما أوصلنا إلى هذه النتيجة.
لذا، يمكن القول إن مبدأ «الأمن الجماعي» أخفق بدوره في تحقيق السلم والأمن الدوليين، مثلما أخفق مبدأ «توازن القوى» من قبل. ويعود السبب في هذا الإخفاق إلى عدم توافر الشروط الموضوعية اللازمة لوضع المنظومة اللازمة لتحقيق الأمن الجماعي موضع التطبيق، سواء في تجربة العصبة أو في تجربة الأمم المتحدة، فلكي يتحقق مثل هذا النجاح ينبغي توافر ثلاثة شروط لم تتوافر مجتمعة في أي من التجربتين:
الشرط الأول: وضوح المبادئ والقواعد العامة التي يقوم عليها نظام الأمن الجماعي، وأن تكون مقبولةً ومتفقاً عليها من الجميع، وهو شرط لم يتوافر في تجربة العصبة وفي تجربة الأمم المتحدة، فلم يشارك في المؤتمر التأسيسي للعصبة سوى عدد محدود من الدول، لأن غالبية الأقطار غير الأوروبية لم تُدعَ إلى مؤتمر الصلح، لأنها كانت في ذلك الوقت تحت السيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية الكبرى، ومن ثم لم تشارك في صياغة عهد العصبة أو في مناقشتها، ولم تصبح أعضاء في العصبة في أي وقت.
ولم يختلف هذا الوضع كثيراً بالنسبة إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي صاغت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة، قواعده الأساسية.
لذا، يلاحظ أن عهد العصبة لم يجرؤ حتى على تحريم مبدأ استخدام القوة في العلاقات الدولية. أما ميثاق الأمم المتحدة فقد تضمن العديد من المبادئ التي اكتنفها غموض أدى إلى خضوعها لتفسيرات شتى ومتباينة، مثل حق «الدفاع الشرعي عن النفس» ومبدأ «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء».
صحيح أن ميثاق الأمم المتحدة حرم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، غير أن خلو الميثاق من تعريف محدد لمعنى «القوة» أدى إلى اعتقاد البعض أن المقصود هنا هو «القوة المسلحة» وحدها، ما فتح الطريق أمام استخدام العقوبات الاقتصادية الفردية كوسيلة لإلحاق الضرر بالآخرين من دون ضابط أو رادع، بل إن بعض الدول الأعضاء لم يتردد في استخدام القوة المسلحة في أعمال عدوانية تحت غطاء «حق الدفاع الشرعي عن النفس».
الشرط الثاني: وجود أجهزة وآليات قادرة على وضع هذه المبادئ والقواعد العامة موضع التطبيق، وعلى فرض احترامها على الجميع من دون تمييز أيضاً، وهو شرط لم يتحقق أيضاً لا في تجربة العصبة ولا في تجربة الأمم المتحدة؛ فعندما كانت الدول الأعضاء في العصبة، وخصوصاً القوى الكبرى، تشعر بأن الخناق بدأ يضيق عليها كانت تلجأ إلى الانسحاب منها؛ كي تتمكن من التهرب من تنفيذ الالتزامات الواقعة على عاتقها.
صحيح أن الأمم المتحدة عالجت موضوع الانسحاب بطريقة سمحت باستقرار العضوية فيها ونموها باطراد، غير أن ميثاقها احتوى في الوقت نفسه على العديد من أشكال التمييز بين الدول، وخصوصاً حين قصر العضوية الدائمة في مجلس الأمن على 5 دول تم تحديدها بالاسم، هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (روسيا الاتحادية حالياً) والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، ومنح كلاً منها حق استخدام «الفيتو» من دون ضوابط، ما سمح لها بإعفاء نفسها، بل وإعفاء حلفائها أيضاً، من الالتزام الصارم بالقواعد والمبادئ المنصوص عليها في الميثاق.
هذا الأمر أدى في نهاية المطاف إلى شل فاعلية منظومة الأمن الجماعي برمتها، وأيضاً إلى فتح الطريق أمام قيام أحلاف عسكرية، كحلف الناتو وحلف وارسو، شكَّلت في واقع الأمر نظاماً بديلاً ومناقضاً لنظام الأمن الجماعي نصاً وروحاً.
الشرط الثالث: تعاون الدول الأعضاء مع المنظمة الدولية المعنية بتطبيق نظام الأمن الجماعي بحسن نية، ومدها بالموارد والإمكانات التي تساعدها على القيام بوظائفها الحيوية، وخصوصاً ما يتعلق منها بحفظ السلم والأمن الدوليين، وهو شرط لم يتحقق أيضاً في العصبة وفي الأمم المتحدة، فقد خلا عهد العصبة من أي نص يلزم الدول الأعضاء بوضع جانب من قواتها العسكرية تحت تصرف مجلس العصبة لاستخدامه عند الضرورة.
أما ميثاق الأمم المتحدة فقد احتوى على العديد من النصوص التي وضعت أساساً صلباً لتشكيل جيش دولي قابل للاستخدام تحت سلطة كل من مجلس الأمن ولجنة أركان الحرب، كنص المادة 43 والمادة 45، لكن هذه المواد لم تدخل مطلقاً حيز التنفيذ، سواء بسبب الحرب الباردة التي اندلعت بين المعسكرين الشرقي والغربي أو بسبب التهميش الذي عانته الأمم المتحدة إبان فترة الهيمنة الأمريكية المنفردة على النظام الدولي.
ولكن لا ينبغي أن نستنتج مما تقدم أن تجربتي العصبة والأمم المتحدة كانتا بلا فائدة تذكر للبشرية، فالواقع أنهما أسهمتا كثيراً في تطوير شكل إدارة العلاقات الدولية وطريقتها؛ فللمرة الأولى في تاريخ البشرية يصبح للنظام الدولي إطار مؤسسي تمثله الأمم المتحدة حالياً، ويضم جميع الدول الموجودة على سطح الكرة الأرضية تقريباً.
صحيح أن معظم هذه الدول لم يشارك في صياغة ميثاق الأمم المتحدة التي لم تصبح منظمة عالمية حقاً إلا بعد تسعينيات القرن الماضي، فعدد الدول التي دعيت لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو التأسيسي لم يتجاوز 51 دولة، فيما وصل عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حالياً إلى 193 دولة هي كل دول العالم تقريباً، وصحيح أن ميثاق الأمم المتحدة، الذي بقي كما هو من دون تعديل يذكر منذ تأسيس هذه المنظمة الدولية، مازال يحتوي على ثغرات كثيرة تجعله عاجزاً عن التأقلم مع التطورات العديدة التي طرأت على النظام الدولي، غير أنَّ معالجة هذه الثغرات باتت أمراً ممكناً إذا ما توافرت ظروف مواتية تسمح بعقد مؤتمر عالمي لمراجعة هذا الميثاق.
الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، المستفيد الأكبر من بقاء الميثاق على ما هو عليه، ستقاوم أي محاولة لمراجعة الميثاق أو لصياغة ميثاق جديد، غير أن اهتزاز النظام الدولي أحادي القطبية والتطلع نحو بناء نظام دولي جديد متعدد القطبية سيجبر الجميع على التحرك، آجلاً أو عاجلاً، في هذا الاتجاه، وذلك لسبب بسيط، هو أن العالم لا يحتمل اندلاع حرب عالمية ثالثة كي يشرع في بناء إطار مؤسسي جديد لنظام دولي يعكس بشكل أفضل موازين القوى الراهنة في العالم، ويعالج مشكلات البيئة والفقر والتنمية المتوازنة والمستدامة والجريمة المنظمة، باعتبارها مصادر تهديد لأمن البشرية.
لذا، أظن أن على جميع الدول التي لها مصلحة في بناء نظام دولي جديد متعدد القطبية أن توحد صفوفها، وأن تعكف منذ الآن على صياغة ميثاق بديل لأمم متحدة جديدة تقوم على تحقيق الأمن الجماعي للبشرية كلها، وليس الأمن الجماعي للدول الأعضاء فحسب، وهي المهمة التي سيتعين على أصحاب الهمم أن يتصدوا لها، آجلاً أو عاجلاً، إن أرادت البشرية تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة.
صحيح أن الطريق لتحقيق هذا الهدف مازال طويلاً وشاقاً، ودونه صعاب جمة، لكنه الطريق الوحيد المفضي إلى إنقاذ الحضارة الإنسانية الحالية.
{ أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك