في طفولتي سمعت كلمة السودان من أحاديث الأهل عن الجنود السودانيين الذي جاءوا مع الجيش المصري في حرب عام 1948، بالطبع دون أن أعرف المقصود، لكن كانوا يصفونهم بالشجعان، بالرغم من أنهم لم يكونوا يعلمون أنهم جزء من هزيمة عربية مدوية أمام العصابات الصهيونية. لاحقا وربما في الصفوف المتوسطة في المدرسة تعلمت من درس الجغرافيا والخرائط الملونة أن السودان بلد عربي يقع في إفريقيا، وأنه أكبر الدول العربية مساحة، وفي التاريخ تعلمت أن السودان طالما اتحد مع مصر وكان جزءا من حضارتها القديمة، وكان اسمها حضارة بلاد وادي النيل.
أول تواصل معرفي مع السودان جاء بعد عام 1967 من خلال ابن عم لي (ماهر عثمان) الذي كان يعمل في هيئة البث البريطانيةBBC ، في حينه، جاء إلى عمان ومعه رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وبالمناسبة صالح كان هو أيضا يعمل في الـ«بي بي سي»، قرأت الرواية بنهم، بالتزامن مع جولاتي الأولى في عالم الفلسفة، شدتني الرواية وأعجبت بها أشد إعجاب، فالرواية تتناول مسألة الفجوة بين الحضارات وتلاقيها في آن معا، ومنذ تلك اللحظة بدأت أهتم أكثر بالسودان وأتابع أخباره وصراعاته الداخلية وانقلابات الجنرالات وبنخبه المثقفة وأدبه واقتصاده وأحزابه. ثم خبا اهتمامي عندما طال حكم جعفر النميري وفقدنا الأمل، كما في معظم الدول العربية، من تغيير ديمقراطي عاد اهتمامي بالسودان بعد ثورة شعبه على نظام النميري، وتسلم الحكم الجنرال سوار الذهب عام 1987، وهو الذي وعد بتسليم السلطة لحكومة مدنية. وبالفعل كان أول ضابط عربي يفي بوعده. لقد أعاد هذا التحول الديمقراطي الأمل، وسادت الديمقراطية فترة قصيرة، لكن انقلاب الجنرال البشير المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين أعاد السودان إلى الدكتاتورية العسكرية الإسلاموية.
قبل أربعة أعوام ثار الشعب السوداني مرة أخرى وأسقط نظام البشير، ومرة أخرى تفاءلنا خيرا بأن يعود الشعب السوداني الشقيق لينهض. لكننا اليوم نراقب مشهدا مريعا يدمر فيه السودانيون بلدهم ومقدرات بلدهم بأيديهم، والشعب السوداني تشرد وجاع وازداد فقره، لم يعد السودان مكانًا يصلح للعيش، وأكثر منذ ذلك فإنه قد يذهب نحو التقسيم إلى ثلاث دول، واحدة في الغرب، وأخرى في الشرق وثالثة في الوسط.
لماذا كل هذا الخراب؟ من سيدفع فاتورة إعادة التعمير؟ ألم نر ما حل في الدول العربية وغير العربية التي شهدت حروبا أهلية، سوريا ولبنان اليمن وليبيا والصومال، ورواندا؟
الحل يبدأ بوقف إطلاق النار، بوقف آلة الدمار فورا، ثم تنتقل الأطراف إلى الحوار، والطريق الأسلم أن يعود الجميع إلى الشعب ومن يختاره الشعب عبر انتخابات ديمقراطية يحكم البلاد، والطرف الآخر يتحول إلى معارضة نشطة تعمل على إقناع الشعب بها عبر برامجها.
لن يكون هناك منتصر في الاقتتال الحالي، الجميع سينتهي به الأمر إلى الدمار، ومن المرجح أن يفقد السودان وحدته، كما سبقت الإشارة إليه. ليس هناك صح وخطأ في الحالة السودانية، كل الأطراف على خطأ، لأنها اختارت الحرب الأهلية ورجحتها على الحوار.
السودان بلد غني بثرواته وموارده الطبيعية. ويمكن أن يكون سلة العرب الغذائية. ولكن كما يبدو ليس السودان وحده من يدمر مقدراته بيديه، إنما هي ظاهرة عربية منذ أكثر من عقد، والسؤال هل المشكلة فينا أم هي مؤامرة خارجية؟ أصحاب نظرية المؤامرة يلقون كل المسؤولية على التدخلات الخارجية، والذين يبالغون بجلد الذات يرون أن المشكلة داخلية، مجتمعات ذات صراعات تاريخية.
وسوء التعليم مع غياب الديمقراطية، إن المسألة هي خليط من الأمرين فكلما كثرت نقاط ضعف الداخل سمحت للخارج بأن يتدخل.
ربما كل ما يحتاج إليه السودان وكما حال باقي الدول العربية هو الاستقرار وإدارة صالحة وحكم رشيد، وفساد أقل وديمقراطية وشفافية ومساحة حوار أكبر، إلى أن نصل إلى الدولة الحديثة، دولة كل مواطنيها، هذا ما يحتاج إليه السودان والدول العربية ليصح حال الأمة، ولكن المطلوب فورا هو وقف القتال والدمار.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك