لعل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة ربما سوف تكون الأكثر حسمًا في التاريخ المعاصر، ومتابعتها ضرورة واجبة لأن الولايات المتحدة ليست قوة عادية في التاريخ الإنساني، لأنها بلغت ذرى لم تصل إليها قوة من قبل من حيث الوصول إلى آخر العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا وثقافيًّا.
هي القوة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي، وهي اليوم تقع في صدارة التكنولوجيات الحديثة، كما أنها تقع على حافة صراعات اليوم وفرص السلام فيها، وهي التي تقف على باب البحث عن خلاص الكوكب مما فيه من أمراض لأنها مع الصين أكثر المتسببين فيه. وقد مرت الولايات المتحدة الامريكية بعمليات من الوهن السياسي منذ بداية القرن الحادي والعشرين حينما كانت انتخابات آل جور في ناحية وجورج بوش الابن في ناحية أخرى إشهارًا بأعمق الانقسامات في السياسة الأمريكية منذ الحرب الأهلية.
صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية كان إيذانًا بتاريخ سياسي جديد للدولة، حتى بعد أن خرج مجبرًا من البيت الأبيض لأن «الترامبية» بقيت راسخة في المجتمع الأمريكي، وفي ولايات أمريكية بعينها. لم تكن هزيمة ترامب حسمًا لقضية فكرية، وإنما كانت معالجة وقتية لقضايا سياسية مركبة يصعب حسم كل منها.
لم يعد النظام السياسي الأمريكي قائمًا على حزبين سياسيين يفترقان في مسائل اجتماعية واقتصادية، ولكنهما يجتمعان في توافق عام حول الهوية، والرسالة الأمريكية في العالم وفي التاريخ.
هذا التوافق وصل إلى نهايته؛ وبعد أن كان أمل العديد من منتقدي دونالد ترامب المحافظين بعد هزيمته، وخاصة في أعقاب تمرد 6 يناير 2020، ان يعود الحزب الجمهوري إلى شكله السابق.
كان الامل ان تكون رئاسة ترامب في نهاية المطاف ليس أكثر من جملة سياسية عابرة. سوف ينأى الحزب الجمهوري بنفسه عن ترامب والترامبية، ويصبح حزبًا عاديًّا كما كان مرة أخرى بينه وبين الديمقراطيين مساحات من التوافق غير قليلة.
لكن هذا الحلم سرعان ما انتهى؛ وبات جلِيًّا أنه ربما كانت رئاسة ترامب هي أول فصل في دراما سياسية أطول وأكثر سوادًا، حيث أصبح الحزب الجمهوري أشد تطرفًا. استمرار هذا الوضع وإلى متى سؤال تصعب الإجابة عنه.
يتجلى التطرف بطرق كثيرة، ولا سيما في شعبية ترامب الدائمة بين الجمهوريين. شن الموالون لترامب هجمات شرسة ضد المشرعين الجمهوريين الذين صوتوا لمحاكمته لدوره في التمرد، حتى في الوقت الذي نصب فيه الجمهوريون الوطنيون أنفسهم بشغف كخليفة له.
تُظهر وسائل الإعلام اليمينية تعصبًا متزايدًا، بينما تُظهر استطلاعات الرأي العام أن ناخبي الحزب الجمهوري يتبنون كذبة ترامب بأن الانتخابات سُرقت منه.
لم تكن إقامة دونالد ترامب في البيت الأبيض أربع سنوات ضائعة سدى بالنسبة إلى حزمة من التيارات السياسية الأمريكية التي كانت موجودة على هامش الحياة السياسية الأمريكية ولكنها معه أصبحت في قلبها.
خارجيًّا، فإنه خلال الفترة التي حكم فيها الجمهوري دونالد ترامب، وخلال سنواته الأربع في الحكم، فإنه كان حريصًا على التأكيد أن الولايات المتحدة عليها التراجع عن التورط في العالم، وأن تكون حريصة على نفسها، حتى من حلفائها، الذين يستغلون «كرمها»، ويطالبونها بحمايتهم، بينما يبخلون على أنفسهم في الإنفاق على الدفاع والأمن والقوة العسكرية.
أكثر من ذلك أن ترامب لم يكن حريصًا على فكرة «القيادة» الأمريكية للعالم، وخاصة من الناحية القيمية للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، التي رآها تُعمي عيون أمريكا عن أخطار الاختلاط بالعالم غير المتقدم، والمعادي بالضرورة للدولة الأمريكية.
جاء ترامب إلى ساحة السياسة الأمريكية في وقت تبلور فيه تيار «ضد العولمة» ورموزها من أول هجرة البشر إلى حركة التجارة إلى المؤسسات التي عبرت عنها. بشكل ما لم يعد ممكنًا تلاقي الأفكار اليمينية المعروفة حول دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع مع أفكار العولمة، أو حتى ما كان معروفًا بالنظام الدولي المتسم بحرية التجارة.
وعلى العكس من ذلك، فإن توجهات «اليمين» أصبحت تميل بقوة نحو الانعزال والعزلة، والتقوقع داخل شرنقة الدولة القومية مع درجة كبيرة من التوجس في الدول الأخرى، بما فيها تلك التي اجتمعت داخل تحالفات واندماجات وتكاملات عابرة للحدود الوطنية.
ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت هذه الاتجاهات الجديدة تأخذ أشكالًا عملية ظهرت في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيما بات معروفًا بالبريكست Brexit، وجاء انتخاب ترامب لكي يشكل ما هو أكثر من انتخاب رئيس جديد تحت راية اليمين، وإنما ظاهرة متكاملة يمكن نعتها بالأمريكست Amerexit.
وداخليًّا، وضع الرئيس الخامس والأربعون دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأسس لما بات يسمى الترامبية نسبة إليه وإلى أحاديثه وأفعاله. و«الترامبية» تقوم على آيديولوجية القوميين البيض المختلطة بأفكار الكنائس الإنجيلية، وكثيرًا ما تستخدم شعاراتها ورموزها للتمييز ليس فقط بين البيض والسود، أو البيض والآسيويين واللاتينيين، وإنما أيضًا بين الطوائف المسيحية المختلفة ومدى نفوذ كل منها في الولايات الأمريكية.
وربما كان يوم السادس من يناير 2020 مفصحًا عن العناصر النقية للترامبية كحركة سياسية تشمل أكثر مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب حماسة وعنفًا، بما في ذلك مجموعات مثل Proud Boys وOathkeepers وQAnon و3 Percenters وAmerica Firsters، يغطون أنفسهم بلغة الكتاب المقدس لتبرير أفعالهم.
قال المراقبون إن الصلبان والأعلام وغيرها من المعروضات كانت الأمثلة على كيفية استشهاد الإرهابيين البيض عبر التاريخ بالمسيحية، بما في ذلك الكوكلوكس كلانKKK ، لتبرير ما يزعمون أنه حقهم الإلهي في السيطرة على الأجناس والمجموعات العرقية.
خلال هذه المرحلة التمهيدية للانتخابات الأمريكية المقبلة نجد ظواهر مهمة: أولاها أن كافة المرشحين الجمهوريين عاجزون تمامًا عن تخطي نسبة التأييد التي يحصل عليها ترامب بين الجمهوريين.
وثانيتها أنه رغم توجيه 87 اتهامًا للرئيس ترامب تتراوح ما بين الأخلاقي (اتهامات التحرش بالنساء في 13 قضية)، والقانوني والدستوري المتعلق بدوره في الضغط على الولايات من أجل تغيير نتيجة الانتخابات (ولاية جورجيا مثالًا)، والإهمال الوظيفي الحاد باحتجاز الوثائق الرئاسية في منزله في «مارا لاجا» بولاية فلوريدا وليس تسليمها للسلطات المختصة قبل خروجه من البيت الأبيض.
وثالثتها أن تأكيد ترامب المستمر أن الانتخابات السابقة قد جرى تزييف نتائجها، وتبعية تكتل سكاني كبير وراء ذلك، لم يتغير خلال السنوات السابقة وبعد تولى رئيس آخر للسلطة يضع حاجزًا بين العملية الانتخابية ونزاهتها.
ورابعتها أن سلوكيات ترامب عند الخروج من السلطة، فضلًا عن مساندة حادث الاعتداء على الكونجرس، خرجت تمامًا على كافة التقاليد المعروفة في حالة انتقال السلطة الأمريكية من أول تسليم البيت الأبيض إلى حضور قَسَم الرئيس الجديد. الانتخابات القادمة والمرجح لها مواجهة أخرى بين ترامب وبايدن سوف تحدد المدى الذي وصلت إليه «الترامبية» في تغيير المجتمع السياسي الأمريكي.
{ كاتب ومفكر مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك