العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن تخاريف الفولكلور الطبي

أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬خبير‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الأعشاب،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تمثل‭ ‬الغذاء‭ ‬الرئيسي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬عشرات‭ ‬الأصناف‭ ‬من‭ ‬النباتات‭ ‬النيلية‭ ‬والصحراوية،‭ ‬هذه‭ ‬طعمها‭ ‬حلو،‭ ‬وهذا‭ ‬يسبب‭ ‬الاسهال،‭ ‬وتلك‭ ‬تزيل‭ ‬الإمساك‭ ‬والأخرى‭ ‬سامة،‭ ‬وكانت‭ ‬بعض‭ ‬الأعشاب‭ ‬الطبية‭ ‬المجربة‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬موجودة‭ ‬بصفة‭ ‬دائمة‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬الاسعافات‭ ‬الأولية‭ ‬في‭ ‬بيتنا،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الصندوق‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬أهل‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬‮«‬السحارة‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صندوق‭ ‬خشبي‭ ‬ضخم‭ ‬كان‭ ‬أهلنا‭ ‬يخبئون‭ ‬بداخلها‭ ‬حليهم‭ ‬الذهبية‭ ‬والسلع‭ ‬التموينية‭ ‬المعرضة‭ ‬للسطو‭ ‬من‭ ‬قبلنا‭ ‬نحن‭ ‬الأطفال،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬السكر‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬فالمشروم‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬ذي‭ ‬شنّة‭ ‬ورنّة،‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬طعام‭ ‬الفقراء،‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬سبيلا‭ ‬للحم،‭ ‬ومن‭ ‬آيات‭ ‬استخفاف‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين‭ ‬به‭ ‬أنهم‭  ‬يسمونه‭ ‬‮«‬كجِن‭ ‬قور‮»‬‭ ‬أي‭ ‬علف‭ ‬الحمير‭.‬

أما‭ ‬الحلبة‭ ‬فهي‭ ‬الغذاء‭ ‬الرئيسي‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬للمرأة‭ ‬النفساء‭ ‬أي‭ ‬حديثة‭ ‬الولادة،‭ ‬وتُمنع‭ ‬النفساء‭ ‬من‭ ‬مغادرة‭ ‬السرير‭ ‬طوال‭ ‬أربعين‭ ‬يوماً‭ ‬تظل‭ ‬خلالها‭ ‬تتغذى‭ ‬على‭ ‬الحلبة‭ ‬المطبوخة‭ ‬بالطحين‭ ‬والماء‭ ‬وتؤكل‭ ‬وعليها‭ ‬الزبدة‭ ‬المذابة،‭ ‬وعصيدة‭ ‬التمر‭ ‬وبنهاية‭ ‬مدة‭ ‬النفاس‭ ‬تلك‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬يشبه‭ ‬وحيد‭ ‬القرن،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬أمام‭ ‬زوجها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يطلقها‭ ‬أو‭ ‬يتزوج‭ ‬عليها‭ ‬حفاظاً‭ ‬على‭ ‬سلامته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وقد‭ ‬ثبت‭ ‬علمياً‭ ‬أن‭ ‬الحلبة‭ ‬عالية‭ ‬القيمة‭ ‬الغذائية‭ ‬وتساعد‭ ‬المرأة‭ ‬المرضعة‭ ‬على‭ ‬در‭ ‬حليب‭ ‬يكفي‭ ‬للاستهلاك‭ ‬المحلي‭ ‬والتصدير،‭ ‬وفي‭ ‬مستشفيات‭ ‬الهند‭ ‬يقدمون‭ ‬الحلبة‭ ‬أو‭ ‬منقوعها‭ ‬لحديثات‭ ‬الولادة،‭ ‬وفي‭ ‬أمريكا‭ ‬تعطى‭ ‬الحلبة‭ ‬fenugreek‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حبوب‭ ‬للمرأة‭ ‬حديثة‭ ‬الولادة‭ ‬قليلة‭ ‬لبن‭ ‬الثدي‭.‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬زوجتي‭ ‬تجيد‭ ‬صناعة‭ ‬عصيدة‭ ‬الحلبة‭ (‬يسميها‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬مديدة‮»‬‭) ‬فإنني‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لتوفيرها‭ ‬لمستشفيات‭ ‬النساء‭ ‬والولادة‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬بالطن‭ ‬المتري‭ ‬وبسعر‭ ‬التكلفة،‭ ‬وتنظيم‭ ‬دورات‭ ‬في‭ ‬إعدادها‭ (‬تحت‭ ‬اشراف‭ ‬زوجتي‭ ‬طبعاً‭) ‬بواقع‭ ‬مائة‭ ‬ريال‭ ‬للساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬تعزيزاً‭ ‬للتضامن‭ ‬العربي‭ ‬والمصير‭ ‬المشترك‭ ‬الأغبر‭.‬

ما‭ ‬فاجأني‭ ‬وافقدني‭ ‬توازني‭ ‬مؤخرا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬مجددا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الأخوة‭ ‬السودانيين‭ ‬عن‭ ‬مزايا‭ ‬البرسيم‭ (‬الجت‭) ‬الطبية‭. ‬وهو‭ ‬نبتة‭ ‬شديدة‭ ‬الخضرة‭ ‬يصل‭ ‬ارتفاعها‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬قدمين‭ ‬احياناً‭ ‬وإذا‭ ‬زرعتها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬فإنك‭ ‬تظل‭ ‬تقطعها‭ ‬أو‭ ‬تحشها‭ ‬مرة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬فتعاود‭ ‬النمو،‭ ‬وهي‭ ‬بالتالي‭ ‬نبات‭ ‬اقتصادي‭ ‬مفيد‭ ‬جداً‭ ‬للبهائم‭ ‬والدواب،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬أولئك‭ ‬الأخوة‭ ‬أن‭ ‬البرسيم‭ ‬يخفض‭ ‬نسبة‭ ‬السكر‭ ‬في‭ ‬الدم،‭ ‬ودلوني‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬تداوى‭ ‬به‭ ‬‮«‬لن‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬اسمه‭ ‬لأنه‭ ‬يشغل‭ ‬منصباً‭ ‬حساساً‭ ‬قد‭ ‬يفقده‭ ‬إذا‭ ‬ذاع‭ ‬أمر‭ ‬تعاطيه‭ ‬البرسيم‮»‬‭.‬

ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬عاقل‭ ‬وراشد‭ ‬ومستنير،‭ ‬وفوق‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬فهو‭ ‬فنان‭ ‬ذو‭ ‬ريشة‭ ‬مبدعة،‭ ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬تعاطى‭ ‬البرسيم‭ ‬أخضر،‭ ‬ومجففاً‭ ‬وأنه‭ ‬استغنى‭ ‬عن‭ ‬الأدوية‭ ‬الكيميائية‭ ‬المنشطة‭ ‬للبنكرياس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعافى‭ ‬من‭ ‬‮«‬السكري‮»‬‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه‭ ‬جيداً‭ ‬وأثق‭ ‬في‭ ‬رجاحة‭ ‬عقله‭ ‬لطلبت‭ ‬سيارة‭ ‬الاسعاف‭ ‬ونقلته‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬لإجراء‭ ‬عملية‭ ‬غسيل‭ ‬مخ‭ ‬ومعدة‭ ‬له‭ ‬كي‭ ‬يتوب‭ ‬عن‭ ‬تناول‭ ‬البرسيم،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دله‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الوصفة‭ ‬العجيبة‭!  ‬أكد‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬تقريراً‭ ‬طبياً‭ ‬يفيد‭ ‬أن‭ ‬ابحاثاً‭ ‬أميركية‭ ‬أثبتت‭ ‬فعالية‭ ‬البرسيم‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬مرضى‭ ‬السكر‭. (‬صاحبي‭ ‬هذا‭ ‬أكل‭ ‬ذلك‭ ‬العشب‭ ‬حينا‭ ‬من‭ ‬الدهر،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬الى‭ ‬رشده‭ ‬وانصاع‭ ‬لأمر‭ ‬الطبيب‭ ‬بتعاطي‭ ‬الإنسولين‭!!).‬

ثم‭ ‬ماذا‭ ‬بعد؟‭  ‬هل‭ ‬يستبعد‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬طبي‭ ‬لأشكو‭ ‬من‭ ‬الإمساك‭ ‬كعادتي‭ ‬فيقول‭ ‬لي‭ ‬الطبيب‭: ‬كل‭ ‬تبن،‭ ‬ومطلوب‭ ‬مني‭ ‬الا‭ ‬أغضب،‭ ‬بل‭ ‬أتوجه‭ ‬إلى‭ ‬زريبة‭ ‬البهائم‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬تبن‭ ‬معقم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬يحوي‭ ‬كمية‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الالياف‭ ‬الطبيعية؟‭  ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬كلام‭ ‬الأطباء‭ ‬على‭ ‬عيني‭ ‬ورأسي،‭ ‬ولكنني‭ ‬أحذر‭ ‬أطباء‭ ‬الحداثة‭ ‬والأعشاب‭ (‬الهوميوباثي‭) ‬من‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬أوصاني‭ ‬أحدهم‭ ‬بتناول‭ ‬الكوسا‭ ‬كدواء‭ ‬فلا‭ ‬يلومن‭ ‬إلا‭ ‬نفسه،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬تستطيع‭ ‬إقناعي‭ ‬أن‭ ‬الكوسا‭ ‬التي‭ ‬تعافها‭ ‬الخراف‭ ‬تصلح‭ ‬للاستهلاك‭ ‬الآدمي،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬الخراف‭ ‬معروفة‭ ‬بالنهم‭ ‬والدناءة‭ ‬والشراهة‭ ‬وتأكل‭ ‬العلف‭ ‬والكرتون‭ ‬والجرائد،‭ ‬وكل‭ ‬شيء،‭ ‬إلا‭ ‬الكوسا‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا