منذ سنوات غدت أخبار الكوارث الطبيعية والأزمات بمختلف أنواعها وتصنيفاتها تتزايد، وربما جاء تصريح الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) في يوليو 2023 ليتوج كل ذلك، فقد أشار إلى أن عصر تغير المناخ قد انتهى، والآن قد بدأ عهد (الغليان الحراري العالمي)، ولكن هل هذا الكلام يتوافق مع الحقائق العلمية أو أنه مجرد كلام؟ لا نعرف.
ولكن استكمالاً لكلام الأمين العام، فإنه يوضح أن عواقب هذا الارتفاع القياسي في درجات الحرارة (واضحة ومأساوية) حيث ستجرف الأمطار الموسمية الأطفال وستهرب العائلات من لهيب النيران وسينهار العمال بسبب الحر الشديد. وأضاف أن هذا الصيف –يقصد صيف عام 2023- (قاس) بالنسبة إلى أجزاء شاسعة من أمريكا الشمالية وإفريقيا وأوروبا، مؤكدًا أنها (كارثة) للكوكب بأسره.
وأكد أن هذا الأمر يتسق مع التوقعات والتحذيرات المتكررة، لكن المفاجأة الوحيدة هي (سرعة التغير)، مشيرًا إلى أن (تغير المناخ صار هنا)، وقال أيضًا: «لا مزيد من التردد، لا مزيد من الأعذار، لا مزيد من انتظار الآخرين للتحرك أولاً».
ولكن في الحقيقة فإن قضية تغير المناخ ما هي إلا قضية واحدة من قضايا كثيرة كلها تهدد بقاء البشرية واستقرارها في كوكب الأرض، فهناك عدد آخر من القضايا والأزمات تحيط بالإنسان والكرة الأرضية، بعضها أو جلها ذات علاقة بالاقتصاد، وعدد منها لها علاقة بالبيئة والصحة والطبيعة، فلنستعرض بعضًا من ذلك.
عودة الحرب الباردة وأزمة الغذاء الساخنة
يثير كثير من الناس هذه التساؤلات:
لماذا كان عهد الحرب الباردة، وسباق التسلح الخطير، والصراع الآيديولوجي الوجودي المتأجج بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، أفضل من هذا العصر الذي تقلصت فيه الصراعات الآيديولوجية، وتسيَّدت فيه الرأسمالية الغربية دون منازع؟ وحتى الصين، الشيوعية رسميًا، بدأت منذ ثلاثة عقود تنهج نهجًا اقتصاديًا رأسماليًا؟
ولماذا أصبحنا ننظر إلى عهد الصراع بين الحِلْفَين العسكريين العملاقين، الناتو ووارسو، حيث الرؤوس النووية المتقابلة، وحالة الإنذار القصوى واقتراب الأصابع من أزرار الرؤوس النووية أحيانًا، بأنه أكثر أمانًا من هذا العصر، الذي اختفى فيه حلف وارسو كليًا، وانضم معظم أعضائه إلى حلف الناتو، وأصبحت فيه القوى الرأسمالية الغربية أقوى عسكريًا وأغنى اقتصاديًا وأكثر تطورًا علميًا وأسرع لوجستيًا واتصاليًا؟ بل أصبحت الوسائل الدبلوماسية والتعاون الدولي هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، وخصوصًا بعد تجربة الحربين الكونيتين المدمرتين في القرن الماضي.
ربما يُعزى البعض أن السبب يعود إلى طبيعة الصراع، فهو صراع على الثروة أكثر منه على الآيديولوجية، وكذلك إلى غياب التفاهم بين القوى المتصارعة، وصعوبة الاتفاق على القضايا الخلافية، وخصوصًا فيما يتعلق بالنزاع بين روسيا وأوكرانيا، فلا الروس مستعدون للتراجع عن تدخلهم في أوكرانيا، والاعتراف بالهزيمة ولعق الجراح، ولا الغربيون مستعدون للتساهل في عملية التجاوز على سيادة دولة مستقلة ديمقراطية، يعتبرونها، وتعتبر نفسها، جزءًا من العالم الغربي.
والحرب في أوكرانيا لم تكن مجرد حرب بين دولتين متجاورتين، بل ألقت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، إذ إنها ضاعفت من أسعار الطاقة، بسبب فرض الدول الغربية عقوبات على روسيا، ما انعكس سلبًا على الإنتاج والنشاطات الاقتصادية كافة، وأدى إلى ارتفاع معدل التضخم بشكل متسارع، وأوقفت إمدادات القمح العالمية، الأمر الذي خلق، أو من شأنه أن يخلق، أزمة غذاء عالمية خطيرة، وخصوصًا أنها أوقفت تصدير القمح من دولتين رئيسيتين لإنتاج القمح العالمي، هما روسيا وأوكرانيا.
وهذا ما دفع كثير من الدول، بينها الهند مثلاً، وهي منتج كبير للحبوب، إلى إيقاف صادراتها من الحبوب، في ضوء التلاعب في الأسعار، لكن هذا الإجراء فاقم الأوضاع في البلدان الأخرى وخصوصًا الفقيرة منها، التي لم تعد قادرة على دفع الأثمان العالية للقمح والمنتجات الغذائية الأساسية. ولقد قرأنا ما حذَّر به المبعوث الأمريكي للأمن الغذائي العالمي (كاري فاولار) من أن أزمة الغذاء العالمية لن تختفي قريبًا، بل قد تستمر ثلاث سنوات وتؤثر على العديد من الدول، وخصوصًا في إفريقيا والشرق الأوسط.
وما يزيد الأزمة تفاقمًا هو الإنفاق المتسارع على التسلح في العديد من دول العالم، وخصوصًا في أوروبا ودول الشرق الأوسط، وبدلاً من أن تذهب الأموال إلى مشاريع الاستثمار في التطوير والتنمية الاقتصادية والبنية التحتية، أخذت تتدفق على الجيوش ومصانع الأسلحة. ومن الجدير بالذكر أن البنك الدولي يتوقع أن النمو الاقتصادي العالمي سينخفض بنسبة 2.8% هذا العام، مقارنة بـ5.7% في العام الماضي –الذي تخلله إغلاق شامل لمعظم الأنشطة في دول عديدة بسبب جائحة كورونا– وأنه سيبقى بهذا المستوى خلال عامي 2023 و2024، بينما سينخفض معدل دخل الفرد في البلدان النامية بنسبة 5% هذا العام. هكذا تشير التقارير.
الاقتصاد أزمة عالمية دائمة
اقتصاديًا، فقد دخل العالم في متاهة تضخم وديون، إذ باتت تشكل قنبلة يمكن أن تنفجر باقتصاده بين لحظة وأُخرى، مع استفحال الغلاء وشح السيولة في العديد من الدول حول العالم لأسباب مختلفة. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تُنذر بها المؤشرات بانهيار محتمل، فالاقتصاد العالمي مرّ بالعديد من تلك المخاطر الاقتصادية على مر السنين. وربما لا يزال كثير منا يتذكر انهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة عام 2008 والأزمة المالية التي أعقبت ذلك حول العالم وصولاً إلى الدول العربية. وكذلك أزمة (منطقة اليورو)، وهي إحدى نتائج الأزمة المالية التي حدثت في عام 2008، وبلغت ذروتها بين عامي 2010 و2012. فقد بدأت الأزمة عندما أعلنت دول أوروبية عجزها عن سداد أو إعادة تمويل ديونها الحكومية أو إنقاذ بنوكها المحاصرة، دون مساعدة من مؤسسات مالية خارجية، وشملت دول جنوب المنطقة الأوروبية كالبرتغال واليونان وقبرص قبل أن تشمل إسبانيا وإيطاليا بشكل أقل حدة، ووضعت المنطقة برمتها على حافة الانهيار الاقتصادي.
ولكن، شهدت نهاية سنة 2022 وبداية 2023 صدور العديد من التقارير الاقتصادية الدولية حول الآفاق الاقتصادية لعام 2023، ولعل ما يميز هذه التقارير هو إجماعها على دخول الاقتصاد العالمي سنة 2023، بل حتى ما بعد ذلك، في ركود وتضخم. ويأتي التنبؤ بركود الاقتصاد العالمي بعد بداية تعافيه من تداعيات جائحة كورونا وتضرر سوق الطاقة والحبوب من تداعيات الحرب في أوكرانيا. فهل هي حقيقة أن الاقتصاد العالمي مقبل على تضخم متبوع بركود عام؟ ويمكن أن نلاحظ أن هناك إجماعا –وهذا أمر غريب– من معظم المؤسسات الاقتصادية الدولية على دخول الاقتصاد العالمي في تراجع حاد، فعلى سبيل المثال يشير أحدث تقرير للبنك الدولي عن الآفاق الاقتصادية العالمية إلى أن معدل النمو العالمي سيتباطأ بشدة ليصل إلى 1.7% خلال 2023. ولا يستثني هذا التراجع اقتصادًا معينًا، بل يشمل كل اقتصادات العالم، حيث سيكون تراجع النمو عمومًا حادًّا وذلك من خلال انخفاض توقعات النمو لتصل إلى 95% من الاقتصادات المتقدمة ونحو 70% من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
أما تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2022 الذي جاء تحت عنوان (أزمة فوق أزمة) فيشير إلى أن الاقتصاد العالمي يواجه حاليًا أكبر اختبار يتعرض له منذ الحرب العالمية الثانية. ويأتي هذا بعد ارتفاع التكاليف الصحية الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن جائحة كورونا ارتفاعًا أثّر بصفة مباشرة على سبل العيش في مختلف مناطق العالم. يضاف إلى ذلك الانعكاسات المباشرة التي لحقت بالاقتصاد العالمي في نهاية عام 2022 جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة الارتفاع الحاد لأسعار الغذاء والوقود. يضاف أيضا إلى ذلك اتساع نطاق التضخم الذي ترتب عليه توسع حجم الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في العديد من البلدان، ومن ثم أثر في دخل الأفراد ومستويات معيشتهم.
كوارث طبيعية تتوج الأزمات
لم يهدأ العالم ولم يستقر من جائحة فيروس كوفيد-19 حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية أن على كل الدول الاستعداد للتصدي للفيروس المتحور الجديد، فكيف حدث؟
ومن جانب آخر فقد ذكرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة في 1 سبتمبر 2021 أن عدد الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات وموجات الحر، الناتجة عن تغير المناخ زادت خمس مرات على مدى الخمسين عامًا الماضية وأودت بحياة أكثر من مليوني شخص، وتسببت في خسائر بلغت 3.64 تريليونات دولار، وحسب تقرير أممي، حذر من أن العالم سيشهد المزيد من (نوبات الطقس المتطرف).
كما تشير التقارير إلى أن موجات الحر غير المسبوقة باتت أمرًا شائعًا في عدد من ولايات أمريكا كواشنطن وأوريغون وكذلك مقاطعة بريتيش كولومبيا الكندية، وتسببت المستويات القياسية من الحرارة الناجمة عن (قبة حرارية) نادرة القوة حيث حُبس الهواء الساخن أياما، في وفاة المئات.
وفي مدغشقر، وبعد سنوات من الجفاف الحاد يعاني قرابة 1.14 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي إذ يضطر كثيرون إلى أكل الصبار وأوراق الأشجار وحتى الجراد في وضع يرقى إلى المجاعة. ويقول العلماء إن الوضع المتردي في مدغشقر يشكل أول مجاعة في التاريخ الحديث يكون سببها الرئيسي ظاهرة (التغير المناخي).
كما أنه مما يجدر ذكره أنه وصل عدد النازحين جراء الصراعات والكوارث الطبيعية في 2020 إلى أعلى معدل له في عشر سنوات؛ إذ بلغ رقمًا قياسيًا تجاوز عتبة 55 مليون شخص فروا إلى أماكن أخرى في بلادهم. كذلك اضطر قرابة 26 مليون شخص إلى عبور حدود بلادهم واللجوء إلى دول أخرى.
هذه بعض الملامح، تُرى ماذا يحدث في العالم، هل كل هذه الأزمات والكوارث مدبرة، أم أنها بالفعل بأسباب طبيعية غير بشرية؟ وربما السؤال الأهم، أين العالم العربي من كل ذلك؟ لا أعرف.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك