يشهد سوق الطاقة العالمي حالة من التقلب. وقد أظهر كبار منتجي النفط من الدول أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، متأثرين باستمرار ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم في الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، إلى جانب استمرار حالة عدم اليقين بشأن الوضع المستقبلي للتمويل العالمي، إحجامًا ملحوظًا عن إنتاج النفط بكميات أكبر، ومن ثم يخاطرون بتراجع الطلب لاحقًا ما يؤثر على عائداتهم من انخفاض المبيعات.
وبعد سلسلة من تخفيضات حصص إنتاج أوبك منذ بداية العام الحالي 2023، بقيادة المملكة العربية السعودية، قدّر بوب ماكنالي، من شركة «رابيدان انرجي» لاستشارات الطاقة أن سوق النفط العالمي حاليًا «يسوده جو من عدم اليقين». في أحدث التطورات، سجلت وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن سعر برميل النفط الخام قد زاد بنسبة 20% منذ أواخر يونيو 2023 ومن المتوقع أن يرتفع أكثر، كما يقول روبرت هارت، من مجلة فوربس في الأشهر المقبلة، حيث إن الموردين الرئيسيين، ولا سيما في مجموعة أوبك بلس، «يتحركون لتقييد الإمدادات».
ومع ذلك، فإن ارتفاع أسعار النفط لا يعني تحسنًا ملحوظًا في التوقعات بالنسبة إلى مصدري النفط أو سوق الطاقة العالمي على نطاق أوسع. وفي حين تم تسجيل زيادة في الطلب من الاقتصادات الغربية خلال صيف العام الحالي، أكد محللو الصناعة أن الارتفاع الأخير كان يعتمد بشدة على زيادة الطلب من الصين.
علاوة على ذلك، لا يزال هناك عائق رئيسي في سوق الطاقة الدولية بين العرض والطلب، وهو العامل الذي يتجلى في كيفية تسارع عمليات السحب من المخزونات الوطنية ومخزونات النفط الخام في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك من احتياطي النفط الاستراتيجي للولايات المتحدة. ومع إظهار أوبك القليل من الدلائل على استعدادها للعدول عن سياساتها الحالية لخفض الإنتاج؛ يبدو من المرجح أن الديناميكيات المتنافسة في السوق بين الموردين والمستهلكين ستتواصل، ويمكن أن تزداد.
وبعد سبعة أسابيع متتالية من المكاسب، ذكرت وكالة الطاقة الدولية في أحدث نتائجها أن سعر النفط الخام ارتفع إلى 88 دولارًا للبرميل في أوائل أغسطس 2023، وهي أعلى كلفة تداول لها منذ يناير. وعلى الرغم من انخفاض الأسعار قليلاً بحلول منتصف أغسطس، لا يزال خام برنت قيمته 86 دولارًا للبرميل وخام غرب تكساس الوسيط عند 82 دولارًا للبرميل. ومن المتوقع أيضًا أن يرتفع السعر لبقية العام. فقد رأى ماكنالي أن سوق النفط يتجه نحو نطاق سعري يبلغ 90 دولارًا للبرميل، وأن سعر 100 دولار للبرميل في الأشهر المقبلة أمر «ممكن تمامًا». وفي غضون ذلك، توقعت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) أن يكون خام برنت عند «نطاق متوسط 80 دولارًا للبرميل بحلول نهاية عام 2024».
إن سبب الارتفاع في أسعار النفط في الشهرين الماضيين، كما تقول ألكسندرا شارب من مجلة «فورين بوليسي»، هو «الزيادة في الطلب العالمي». ولمزيد من التوضيح، قدرت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي على النفط «يرتفع إلى مستويات قياسية» وسط «تنامي السفر الجوي بالصيف»، و«زيادة استخدام النفط في توليد الطاقة» و«تنامي صناعة البتروكيماويات الصينية». كما أشارت شارب إلى تأثير «نمو أفضل من المتوقع بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD) الذي «حدا بالمستهلكين» في هذه البلدان إلى «شراء المزيد من النفط». وبشكل عام، توقعت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي قد يرتفع بمقدار 2.2 مليون برميل يوميًا حتى نهاية عام 2023.
وكان الباعث الرئيسي لزيادة أسعار النفط هو الارتفاع الحاد في الطلب من الصين، الذي أشارت إليه وكالة الطاقة الدولية على أنه يمثل «أكثر من 70% من النمو» في الربع الثاني من عام 2023. وأقرت شارب بأن أنباء زيادة الطلب من بكين على واردات النفط «قد تكون مفاجأة للبعض»، وأن الحكومة تعمل على «تخزين النفط الخام» و«الذي يدفعها إلى زيادة طلبها على النفط في الوقت الحالي». وبالنظر إلى المستقبل، فإن وكالة الطاقة الدولية أشارت إلى «الظروف الاقتصادية الباهتة، ومعايير الكفاءة الأكثر صرامة»، وزيادة استخدام السيارات الكهربائية، و«تضاؤل زخم الانتعاش عقب الوباء» كلها أسباب وراء توقع تباطؤ نمو الطلب على النفط إلى مليون برميل يوميًا في عام 2024. ومن أجل استقرار سوق النفط العالمية، أوضح والتر زيمرمان، في شركة «آي سي إيه بي» للبحوث، أن هذا الطلب المستقبلي الضعيف يمثل مشكلة نظرًا إلى كيفية «إثبات الصين أنها غير قادرة على الخروج من طريقها الخاص إلى اتجاه صعودي، فضلا عن مقدرتها على قيادة الاقتصاد العالمي».
إلى جانب الارتفاع الأخير في الطلب على واردات النفط، تم الاستشهاد بتأثير تخفيضات «أوبك بلس» لإنتاج النفط كسبب لارتفاع الأسعار. وفي أعقاب سلسلة من تخفيضات حصص الإنتاج في عام 2022 وأوائل عام 2023، وفي أبريل 2023، وافق تحالف «أوبك بلس» على خفض إنتاجه بمقدار 1.6 مليون برميل يوميًا حتى نهاية العام. علاوة على ذلك، أعلنت المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط عالميًا، في يوليو تخفيضات إضافية قدرها 500 ألف برميل يوميًا لتستمر حتى نهاية عام 2024 وبالإضافة إلى هذا الإجراء، في أوائل أغسطس 2023، مددت المملكة أيضًا خفضها الطوعي الحالي البالغ مليون برميل يوميًا في سبتمبر وما بعده. وقد رأى ماكنالي أنه بخفض حجم إنتاجها عندما يكون الطلب مرتفعًا فإن أوبك بلس «تخلق عجزًا كبيرًا في السوق» خلال النصف الثاني الحالي من عام 2023. وفي حين أن هذا من شأنه أن يساعد الدول الأعضاء في أوبك بلس على دعم أسعار النفط، فقد يجلب تداعيات كبرى على اتجاهات أسواق الطاقة العالمية على المدى الطويل.
وأشار «إريك نوتال»، شريك ومدير في (شركة ناين بوينت بارتنرز) في تورنتو الكندية، أنه يتم الحكم على «صحة سوق النفط» بناءً على وضع مخزونات النفط الوطنية، كما أن زيادة عمليات السحب من تلك المخزونات من قبل الدول المستهلكة لمحاولة الحفاظ على أسعار النفط من التصاعد إلى الأعلى يشير إلى حجم المنافسة الشديدة بين المصدرين والمستوردين في السوق العالمية. فقد أوضحت إدارة معلومات الطاقة الأمريكي (EIA) أن عمليات السحب تحدث «عندما يكون الطلب على سلعة أكبر من المعروض من تلك السلعة»، وأكدت الوكالة الأمريكية أن تخفيضات أوبك بلس ستستلزم سحب مخزون أمريكي بمقدار 0.4 مليون برميل يوميًا في الفترة ما بين يوليو 2023 ونهاية عام 2024.
من جانبها، كتبت «أوليسيا دميتراكوفا» بشبكة سي إن إن الأمريكية أن هذه التخفيضات الإنتاجية، جنبًا إلى جنب مع ارتفاع الطلب، قد «أدت بالفعل إلى انخفاض حاد في الاحتياطيات النفطية»، وأشار كريستوفر هينز، محلل قطاع النفط في شركة «أسبكتس إنرجي»، إلى أنه تم السحب من تلك الاحتياطات في جميع أنحاء العالم «بقوة» خلال يوليو، وأنه بحلول نهاية أغسطس من المتوقع أن يتساوى معدل تراكم الاحتياطيات النفطية في النصف الأول من عام 2023 مع عمليات السحب الراهنة. وبناء عليه أفادت الوكالة الدولية للطاقة بأن المخزونات العالمية يمكن أن تنخفض بما يصل إلى 2.2 مليون برميل يوميًا في الربع الثالث من عام 2023، ثم بمقدار 1.2 مليون أخرى في الربع الأخير، وهي التخفيضات التي يمكن أن تؤدي إلى «خطر دفع الأسعار إلى الارتفاع». وأضاف «نوتال» أنه بحلول نهاية العام من المتوقع أن تنخفض المخزونات الاحتياطية إلى أدنى مستوى لها في 8 سنوات.
وهناك عنصر آخر يحبط مستهلكي النفط في الغرب هو أن الطفرة في أسعار النفط قد سمحت لروسيا ببيع صادراتها من الخام فوق مستوى السقف السعري للنفط الروسي الذي حددته مجموعة السبع في ديسمبر 2022 عند 60 دولارًا للبرميل. وفي أغسطس 2023، ذكرت وكالة بلومبرج أن موسكو لم تبدأ فحسب في بيع النفط فوق هذا السقف، ولكن أيضًا قد وصلت عائداتها من صادرات الطاقة إلى أعلى مستوى لها في ثمانية أشهر عبر تصدير ما يقرب من 7.3 ملايين برميل من النفط يوميًا، كما أضافت الوكالة الدولية للطاقة أن روسيا عززت أرباحها بنسبة 20% تقريبًا في يوليو إلى 15.3 مليار جنيه إسترليني. ومع إرسال 80% من صادرات روسيا النفطية إلى الهند والصين، فقد حللت وكالة بلومبرج أن هذا «التقدم» الروسي يوضح «مدى نجاح روسيا وحلفائها في إعادة هيكلة السوق لتجنب القيود المفروضة جراء السقف السعري على شحنات النفط الروسية المنقولة بحرًا».
ومع ارتفاع أسعار النفط العالمية، ظلت أوبك بلس ثابتة على مواقفها بشأن تخفيضات الإنتاج الخاصة بها، وتقليص المخزونات الوطنية من الوقود، واستغلال روسيا الوضع لبيع النفط بما يتجاوز الحد الأقصى للسقف السعري وأكدت ياسمين ميلفين من «ستاندرد آند بورز جلوبال» أن هناك «حوافز قوية للمنتجين من خارج أوبك لزيادة إنتاجهم» لمحاولة خفض الأسعار. وأضافت ميلفين أن الولايات المتحدة «تقود تلك المجموعة من المنتجين» في هذا الصدد؛ إذ من المتوقع أن يتجاوز حجم إنتاجها المحلي 12.9 مليون برميل يوميًا للمرة الأولى في الربع الأخير من عام 2023، ومن المتوقع ارتفاع هذا الرقم إلى ما يقرب من 13.09 مليون برميل يوميًا في عام 2024. ومع ذلك أشارت راشيل فرازين من ذا هيل الأمريكية إلى أن أسعار البنزين للمستهلكين الأمريكيين «في ارتفاع»، وأن مخزونات الوقود في الولايات المتحدة تقف الآن عند أدنى مستوى لها منذ عام 2015 عند 217.6 مليون برميل. وقال الكاتب «تشارلز كيندي» من موقع أويل برايس الأمريكي إن إدارة بايدن في واشنطن «ليس لديها أي خيارات لخفض سعر البنزين»، ومن ثم «يمكن أن يكون هناك المزيد من عمليات السحب من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي للولايات المتحدة، على الرغم من إجراء أهم عمليات السحب التاريخية وغير المسبوقة في عام 2022 وسحب 3 ملايين برميل أخرى في مايو 2023 لتسليمها للعملاء في أغسطس الجاري».
ومع أن ملفين قد أشارت إلى إمكانية قيام مصدري النفط الرئيسيين الآخرين من خارج أوبك، كندا والنرويج والبرازيل، بتعزيز مستويات إنتاجهم المحلي بمقدار 2.1 مليون برميل يوميًا لعام 2023، وبمقدار 1.2 مليون برميل أخرى في عام 2024، فإن تأثير ذلك جراء انخفاض حصة أوبك بلس في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2023 بلا شك سيكون كبيرًا على السوق العالمية لبقية العام، وحتى عام 2024 أيضًا.
على العموم، وسط تزايد المنافسة على النفوذ والسيطرة على الأسعار بين المصدرين والمستهلكين، يتوقع جوش يونغ، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة بايسون انتريست، وهي شركة استثمار بارزة في مجال النفط والغاز، أن سوق النفط مهيأ لأن يكون «متقلبًا تمامًا» للأشهر والسنوات المقبلة، وتوقع أنه «قد نشهد ارتفاعات وانهيارات في الأسعار على الإطلاق في ظل المرور بهذه الديناميكية المتمثلة في عدم كفاية العرض بالنسبة إلى الطلب». ويمكن توقع استمرار هذه الديناميكية لسنوات قادمة وأشار المدير التنفيذي للوكالة الدولية الطاقة فاتح بيرول إلى أنه من المتوقع أن يبلغ الطلب العالمي على النفط ذروته قبل نهاية العقد الحالي؛ مع وصول الاستخدام العالمي إلى 106 ملايين برميل بحلول عام 2028، وخاصة أن شارب أكدت أيضًا أنه «حتى الآن، كان للجهود الدولية للحد من انبعاثات الكربون» في النهاية «تأثير ضئيل على معدلات الطلب الإجمالي».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك