شهدت العاصمة الإيطالية «روما» يوم 23 يوليو انطلاق المؤتمر الدولي حول الهجرة غير النظامية، برئاسة رئيسة الوزراء الإيطالية «جورجيا ميلوني»، وبمشاركة قادة من بلدان جنوب المتوسط ودول مجلس التعاون الخليجي، وإفريقيا، والاتحاد الأوروبي، ومؤسسات مالية دولية؛ بهدف «تنظيم ظاهرة الهجرة»، و«مكافحة الاتجار بالبشر»، و«تعزيز التنمية الاقتصادية»، و«تبني نموذج جديد للتعاون بين الدول من خلال التخطيط والتنفيذ المشترك»، و«تبني مبادرات ومشاريع في قطاعات رئيسية؛ هي: «الزراعة، والبنية التحتية، والتعليم، والتدريب، والرعاية الصحية، والماء، والبيئة».
ومن المعلوم أن وقف الهجرة غير الشرعية لإيطاليا كان أحد أبرز معالم الخطاب الانتخابي، الذي أوصل «ميلوني» إلى لسلطة في عام 2022، بعد أن سجلت «روما» عبور نحو 80 ألف مهاجر غير شرعي العام الماضي في مقابل 33 ألفا في السنة السابقة عليها.
وكان على رأس المشاركة الخليجية في المؤتمر رئيس دولة «الإمارات العربية المتحدة» سمو الشيخ «محمد بن زايد»، بينما أوفدت دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى وزراء لتمثيلها، فيما أصبحت ظاهرة الهجرة غير الشرعية تحتل «اهتماما كبيرا»، ليس في دول مقاصد هذه الهجرة؛ كأوروبا ودول مجلس التعاون، ولكن أيضًا في دول مصادر هذه الهجرة ودول عبورها، وفي حين رحبت «روما» بالتعهد الذي أعلنته «أبو ظبي»، بتقديم 100 مليون دولار، فقد أعلنت أن الخطوة التالية للمؤتمر هي عقد مؤتمر للمانحين لتعزيز التنمية في دول المصادر والعبور.
وبينما يقف دور الهجرة في التركيب السكاني والثقافي وأحوال سوق العمل على رأس اهتمامات دول المقاصد؛ فإن نقص التنمية وتدهور الأحوال المعيشية والحريات يأتي في مقدمة أولويات دول المصادر، فيما تقف العوامل الأمنية على رأس اهتمامات دول العبور. ولأن «تونس» دولة عبور، فقد سبق هذا المؤتمر توقيع «بروكسل»، و«روما»، مذكرة تفاهم مع الرئيس التونسي «قيس بن سعيد»، تتضمن مساعدة أوروبية بقيمة 105 ملايين يورو؛ بهدف منع مغادرة قوارب المهاجرين، ومحاربة المهربين. وأعرب ممثلو «الاتحاد الأوروبي»، عن حرصهم على التفاوض في شراكات مماثلة مع مصر والمغرب. ولذات الموضوع، توجه وفد أمني إيطالي إلى ليبيا في أعقاب المؤتمر.
وفيما أجمع المشاركون على أن نقص التنمية في دول المصادر يعد السبب الرئيسي لهذه الظاهرة، فقد تم في ختام المؤتمر إعلان إطلاق ما يُسمى «عملية روما لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية»، والاتفاق على خطوات لمواجهة تدفق الأعداد المتزايدة من المهاجرين في اتجاه أوروبا، بما في ذلك توفير التمويل اللازم لتنمية دول المصادر، وكذلك دول العبور، إضافة إلى تضييق الخناق على تهريب البشر، وتنمية التعاون بين الدول الأوروبية والإفريقية في المجالات التنموية المختلفة بما فيها الطاقة المتجددة.
ومع اعتبار رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» أن الاتفاق الذي تم إبرامه مع «تونس» يمكن أن يكون نموذجًا لدول أخرى، فقد تعهد «الاتحاد الأوروبي» بمساعدات تنموية لتونس قيمتها 1.1 مليار دولار، ودعت «أورسولا» «بروكسل» إلى تقديم مخرج قانوني لاستقبال المهاجرين، بدلاً من المخاطرة بحياتهم في معابر بحرية محفوفة بالمخاطر. وفي هذا الصدد، سجلت «الوكالة الأوروبية» لحرس الحدود والسواحل وصول نحو 330 ألف مهاجر غير نظامي إلى الاتحاد الأوروبي، عبر جميع طرق الهجرة العام الماضي، وهو الأعلى منذ 2016. وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023 ازدادت عمليات عبور المنطقة الوسطى للبحر المتوسط القادمة من سواحل شمال إفريقيا صوب إيطاليا إلى أكثر من 42 ألفا، وهي زيادة تقترب من 300% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي.
ولأن الهجرة وانتقال البشر من مكان إلى آخر «ظاهرة ممتدة»، وهي في بعض منها تعبير عن احتياج متبادل بين مصادر الهجرة ومستقبليها من ناحية، والمهاجرين ومن يهاجر إليهم من ناحية أخرى، حيث أخذت كثير من الدول التي تستقبل هذه الهجرة تعاني من ظاهرة نقص السكان، واختل هرمها السكاني لجهة ارتفاع نسبة المعمرين، وانخفاض نسبة الشباب (مصدر قوة العمل)، حيث إنها لا تريد أي هجرة، تريدها هجرة شباب في سن العمل ذوي مهارات، أو على استعداد لاكتساب هذه المهارات، وفي إطار منظم. ومن ثمّ، كان الاتفاق العالمي من أجل «الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية»، هو أول اتفاق حكومي دولي، تم إعداده تحت رعاية «الأمم المتحدة»، من أجل تغطية جميع أبعاد الهجرة الدولية، بطريقة كلية وشاملة، وجرى اعتماده في مؤتمر حكومي دولي بشأن الهجرة في «مراكش»، ديسمبر 2018.
من جانبها، رحبت «المفوضية السامية لحقوق الإنسان» بهذا الاتفاق كإطار مهم من أجل تعزيز إدارة الهجرة، التي تضع مسألة المهاجرين وحقوقهم الإنسانية في صميمها، وتقدم فرصة سانحة من أجل تعزيز حقوق الإنسان لفئة المهاجرين، بصرف النظر عن مصدر الهجرة ووجهتها. وكان أحد الالتزامات الرئيسية في هذا الاتفاق العالمي هو الحد من الأسباب السلبية للهجرة، بما في ذلك «مكافحة الفقر، والتمييز، ومعالجة التشرد، ومواجهة التغيرات المناخية، والكوارث، وزيادة توافر المسارات وتنويعها من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية»، مع الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الخاصة للمهاجرين، الذين يعيشون أوضاعا هشة.
وبعد 4 سنوات من الاتفاق العالمي حول «الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية»، انعقد المنتدى الدولي الأول لاستعراض الهجرة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك (17–20) مايو 2022. وفي سياق تحضيرات هذا المنتدى، عقدت «شبكة الأمم المتحدة الإقليمية للهجرة في المنطقة العربية» جلسة حوار جمعت أصحاب المصلحة المعنيين بالهجرة. وجاء ذلك بعد مؤتمر «الاستعراض الإقليمي الأول للاتفاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية في المنطقة العربية»، يومي (24 و25 فبراير) 2020، حيث قدم ممثلو الحكومات العربية النتائج الرئيسية للتقارير الوطنية الطوعية للاتفاق العالمي، كما قدموا تجاربهم والتحديات التي واجهتهم والدروس المستفادة، وأفضل الممارسات والخطط المستقبلية.
ويأتي مؤتمر «روما» في سياق هذا الجهد، ليربط بين الهجرة والتنمية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، إذا حدثت تنمية في بلدان المصدر قلت الهجرة منها إلى بلدان الاستقبال، ووضعت في سياقها الذي جاء به الاتفاق العالمي المذكور. وبالفعل، أطلق المؤتمر الخطوط العريضة لصندوق تمويل المشاريع الاستثمارية ومراقبة الحدود، الهادف إلى الحد من تدفق المهاجرين إلى السواحل الأوروبية.
ومع ذلك، وباستثناء الصندوق، لم يعلن المؤتمر أي إجراءات أخرى، واعتبرته «ميلوني» «بداية عمل طويل الأمد لعملية روما، التي على رأس أولوياتها محاربة الهجرة غير النظامية، وإدارة تدفقات الهجرة القانونية، ودعم اللاجئين، وخصوصًا التعاون واسع النطاق لدعم تنمية دول إفريقيا، وخصوصًا بلدان المصدر». واستمرارا، أعطت الأولوية في التمويل إلى الاستثمارات الاستراتيجية والبنى التحتية؛ لأنها أكثر استدامة للتعاون؛ لكن غياب «فرنسا»، و«ألمانيا» -القوتين الأكثر تأثيرًا في الاتحاد الأوروبي- يلقي بظلال من الشك حول مدى نجاح مخرجات هذا المؤتمر، ويضعه في سياق الخطاب الانتخابي لميلوني، وكأنها بهذا المؤتمر تكون قد أوفت بأحد وعودها الانتخابية بعد أن وصلت إلى السلطة.
وبالنظر إلى الخبرات السابقة في مكافحة الهجرة غير الشرعية، نجد أن التركيز سابقا فقط على العمليات الأمنية، والتشديد على مراقبة الحدود؛ لم يحقق أي نتيجة، ومن ثمّ، يظل التعويل على حلول موازية اقتصادية وتنموية في دول المصدر هي الحلول الفعالة والنافذة على الأرض.
ومن الجدير بالذكر أن «صندوق التمويل»، الذي أعلنته قمة روما، قد سبقته تجربة «الصندوق الائتماني الأوروبي للطوارئ من أجل إفريقيا»، الذي تبنته أوروبا بين عامي (2015-2020)، وخصص مبالغ مالية ضخمة لمراقبة الهجرة غير النظامية، ولم يصل إلى النتائج المرجوة باعتراف أوروبي، حيث إن دور المشاريع التنموية في هذا الصندوق كان ضئيلاً، مقارنة بمعدلات الفقر والبطالة في بلدان المصدر، كما أن المساعدات والقروض كان يذهب معظمها لغايات استهلاكية، وليست استثمارية، أي أنها ذات أثر قصير المدى سرعان ما يزول، لتبقى الأسباب الحقيقية للهجرة غير الشرعية موجودة دون معالجة.
وبناء عليه، فإن أي إجراءات تنموية لا بد أن تكون جادة وتتعلق أيضًا بتحسين مناخ الأعمال، حتى تستطيع أيضًا جذب رؤوس الأموال للاستثمار في دول المصدر الفقيرة، التي تمتلك إمكانات هائلة من الثروات الطبيعية. وقد ربط المؤتمر -كما ذكرنا- بين الهجرة والتنمية، شأنه في ذلك شأن حوار (5+5)، الذي تم إنشاؤه عام 1990، بمثابة منتدى دون إقليمي، يمثل أولى المبادرات الرابطة بين الهجرة والتنمية بين دول غرب البحر المتوسط (المغرب – الجزائر – ليبيا – تونس – موريتانيا – إسبانيا – فرنسا – إيطاليا – مالطا – البرتغال).
وفي مارس الماضي، ترأس «المغرب» المؤتمر الوزاري الثامن لهذا الحوار حول الهجرة والتنمية في اتجاه نحو تحديد إطار عمل شامل ومتوافق ومتوازن، بخصوص معالجة متميزة لظاهرة الهجرة غير النظامية، ولا سيما في إطار الروابط الموجودة بين الهجرة والتنمية، وبين الهجرة المنظمة والتنقل، وبين دمج المهاجرين والحفاظ على حقوقهم، ومكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بحقوقهم.
على العموم، إذا كان مؤتمر روما قد تبنى «خطابا مغايرا» مع الدول المصدرة للمهاجرين، يُظهر تعاونا «أكثر فاعلية»، واعتبارها «شريكة»، في مكافحة الظاهرة، وحاول تقويض الاتهامات الموجهة بالعداء للمهاجرين، ومنحه أولوية لقضايا المناخ والتنمية الاقتصادية، وتأكيده دور دول الشرق الأوسط في مواجهة الظاهرة، وتشديده على آليات التنسيق الجماعي؛ فإن فرص نجاح نتائجه تظل مقيدة بتغليب الاتفاقات الثنائية على حساب الجهود الجماعية، وفقدان الإجماع الأوروبي.
وفي الأخير، يبقى المؤتمر إحدى المنصات المهمة في هذا الموضوع الممتد، وإن كان تركيزه فقط على أوروبا، برغم المشاركات الواضحة من خارجها حتى يمكن اعتباره مؤتمرا أوروبيا إفريقيا، أكثر منه دوليا، فيما يتسع الاهتمام بقضية الهجرة غير النظامية ليشمل مناطق أخرى في العالم، بما فيها دول الخليج العربية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك