يعرف مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان باسم «عاصمة الشتات الفلسطيني». قد لا يثير المصطلح الكثير من المشاعر بين أولئك الذين لا يفهمون الأمر تمامًا في سياقه التاريخي، فضلا عن تجربة الوجود المروّع للتطهير العرقي والنفي الدائم، والعنف الهائل الذي أعقب ذلك.
قد نعتبر أن «الشتات» يعني تقريبا «المنفى» أو «التشرد». ومع ذلك، فإن المعنى أكثر تعقيدًا ولا يمكن فهمه إلا من خلال التجربة الحية.
وحتى في ذلك الوقت لم يكن التواصل بالأمر السهل أو الهين. ربما تكون الكتل المكونة من الخرسانة والزنك والأنقاض، المبنية فوق بعضها البعض والتي كانت بمثابة «ملاجئ مؤقتة» لعشرات الآلاف من الناس، تحكي جزءًا صغيرًا من القصة المؤلمة.
في يوم 30 يوليو 2023م اندلعت مجددا أعمال العنف في المخيم الفلسطيني المزدحم للغاية، ليتوقف فترة وجيزة بعد تدخل سلطة العمل المشترك الفلسطينية قبل أن يشتعل فتيل الاقتتال من جديد ويحصد أرواح 13 شخصًا، فيما أصيب عشرات آخرون وفر الآلاف من سكان المخيم.
ومع ذلك، ظل أغلب اللاجئين في ذات المخيم لأن عدة أجيال من الفلسطينيين في عين الحلوة تدرك أن هناك نقطة لا ينفع فيها الهروب أو يخدم أي غرض، لأنه لا يضمن الحياة ولا حتى الموت الكريم. كانت مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين في سبتمبر 1982 دليلاً على هذا الإدراك الجماعي.
قبل كتابة هذا المقال، تحدثت إلى العديد من الأشخاص في جنوب لبنان وقمت بفرز العديد من المقالات والتقارير التي تصف ما يجري في المخيم. ومع ذلك لا تزال الحقيقة ضبابية، أو انتقائية في أحسن الأحوال.
لقد أطنب الكثير من وسائل الإعلام العربية في الحديث عن الصدامات في مخيم عين الحلوة وأنه يرمز إلى الألم الفلسطيني المزمن على مر العقود والسنين.
لم تكن وسائل الإعلام الغربية السائدة قلقة بشأن الألم الفلسطيني، لكنها ركزت في الغالب على «الخروج على القانون» وحالة الانفلات في المخيم، واعتبر أنه خارج عن نطاق الولاية القانونية للجيش اللبناني، وسلطت الضوء على انتشار الأسلحة بين الفصائل الفلسطينية وغيرها من الفصائل المنخرطة في ذلك الاقتتال الداخلي الذي لا نهاية له على ما يبدو، ومن المفترض أنه لا يمكن تفسيره.
لكن مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة بلبنان، وعلى غرار 11 مخيمًا آخر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، يجسد في الحقيقة قصة شيء آخر مختلف تمامًا وأكثر من مجرد صورة رمزية، وأكثر عقلانية من كونها مجرد نتيجة لخروج البعض عن القانون.
إن مخيم عين الحلوة هو في الأساس قصة فلسطين، أو بالأحرى، تدمير فلسطين على أيدي المليشيات الصهيونية على مدى سنتي 1947 و1948. إنها قصة التناقضات، الكبرياء، العار، الأمل، اليأس، وفي النهاية الخيانة.
ليس من السهل اتباع الجدول الزمني قبل جولة العنف الأخيرة. يشير البعض إلى أن القتال بدأ عندما تم تنفيذ محاولة اغتيال -ألقي باللوم فيها على مقاتلي حركة فتح في المخيم- ضد زعيم جماعة إسلامية منافسة.
فشلت المحاولة وأعقبها كمين نفذه متشددون إسلاميون، حيث تمكنوا من قتل قائد بارز في فتح والعديد من حراسه الشخصيين.
في تلك الأثناء يرى آخرون أن اغتيال اللواء أبو أشرف العروشي لم يكن مبررًا على الإطلاق. ومع ذلك، ألقى آخرون، بمن فيهم رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، باللوم على القوى الخارجية و«محاولاتهم المتكررة لاستخدام لبنان ساحة معركة لتصفية الحسابات».
لكن ما هي هذه الكيانات وما الهدف من هذا التدخل وتأجيج الاقتتال؟
يصبح الأمر أكثر ضبابية. على الرغم من مظاهر الفقر والاكتظاظ، فإن عين مخيم الحلوة، على غرار بقية المخيمات الفلسطينية الأخرى، يمثل اليوم مساحة سياسية متنازعا عليها إلى حد كبير.
ومن الناحية النظرية، تهدف هذه المخيمات إلى ترسيخ وحماية حق العودة للاجئين الفلسطينيين. أما على صعيد الممارسة العملية، فإنه يتم استخدام هذه المخيمات لتقويض هذا الحق المكرس والمعترف به دوليًا.
تريد السلطة الفلسطينية، على سبيل المثال، ضمان سيطرة الموالين لفتح على مخيم عين الحلوة، ومن ثم تعمل على حرمان الخصوم الفلسطينيين من أي دور في جنوب لبنان.
تعتبر حركة فتح أكبر جماعة فلسطينية داخل منظمة التحرير الفلسطينية. إنها تهيمن على كل من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. في الماضي، فقد التنظيم سيطرته على عين الحلوة ومخيمات أخرى. وبالنسبة إلى حركة فتح في لبنان فإن الصراع يظل دائما ذا أهمية كبيرة وتداعيات خطيرة.
لا شك أن مخيم عين الحلوة يكتسي أهمية كبيرة للسلطة الفلسطينية على الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية قد تبرأت إلى حد كبير من لاجئي جنوب لبنان وحقهم في العودة. وقد ركزت في الغالب على حكم مناطق معينة في الضفة الغربية تحت رعاية الاحتلال الإسرائيلي.
ومع ذلك، لا يزال اللاجئون في لبنان يوفرون ورقة تدعم السلطة الفلسطينية وذلك لسببين رئيسيين: الأول، كمصدر مصادقة لفتح، وثانيًا، لدرء أي انتقاد.
على مر السنين الماضية، قُتل المئات من لاجئي مخيم عين الحلوة في القصف الإسرائيلي، وكذلك جراء الاقتتال الداخلي الفلسطيني اللبناني والفلسطيني الفلسطيني.
نفذت إسرائيل الكثير من عمليات القتل سعيا منها للقضاء على المقاومة الفلسطينية في لبنان من المصدر.
تم تنفيذ بقية أعمال العنف من قبل الجماعات التي سعت إلى الهيمنة والاستئثار بالنفوذ والسلطة، أحيانًا لمصلحتها الخاصة، ولكن غالبًا كمليشيات بالوكالة لقوى خارجية.
ويبلغ عدد المحاصرين في الوسط 120 ألف نسمة من الفلسطينيين، وهو العدد المقدر لسكان عين الحلوة، وبالتالي جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
ليس كل سكان عين الحلوة هم لاجئون فلسطينيون مسجلون؛ إذ تقدر وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) عدد المسجلين بنحو 63 ألف شخص، فيما فر الباقون إلى مخيم عين الحلوة في أعقاب الحرب السورية، التي أدت إلى تضخم عدد سكان المخيمات اللبنانية وزادت التوترات القائمة.
ومع ذلك، فإن المشاكل التي يعاني منها اللاجئون متعددة الجوانب: الحبس المادي الفعلي الذي يمليه الافتقار إلى الفرص والقبول في التيار الرئيسي للمجتمع اللبناني، والمخاطر الكبيرة لمغادرة لبنان كلاجئين غير شرعيين مهربين عبر البحر الأبيض المتوسط، والشعور، خاصة بين الأجيال الأكبر سنا، بأن مغادرة المخيمات بمثابة خيانة لحق العودة.
كل هذا يحدث في سياق سياسي، حيث أسقطت القيادة الفلسطينية اللاجئين كليًا من حساباتها، ذلك أنها ترى في اللاجئين بيادق في لعبة قوة بين حركة فتح وخصومها من الفصائل الأخرى.
على مدى عقود، ظلت إسرائيل ترفض أي حديث عن اللاجئين الفلسطينيين أو التطرق إلى حقهم في العودة. إن اعتداءات إسرائيل المستمرة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين نفسها، واهتمامها بما يجري في بلدان الشتات، هو جزء من سعيها لزعزعة أسس القضية الفلسطينية ذاتها.
إذا لم يتم السيطرة على الوضع بشكل دائم وإنهاء الاقتتال الداخلي في مخيم عين الحلوة فإنه قد يؤدي في النهاية إلى حصول إسرائيل على ما تريده بالضبط: تقديم اللاجئين الفلسطينيين باعتبارهم عائقًا أمام الدول المضيفة، وفي النهاية تدمير «عاصمة الشتات» والقضاء على الأمل الذي ظل يحدو أربعة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين، الأمل في العودة في يوم من الأيام إلى وطنهم وديارهم.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك