العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وتخليت عن حلم الثراء

غادرت‭ ‬السودان‭ ‬بعد‭ ‬الزواج‭ ‬بأشهر‭ ‬قليلة‭ ‬وضربت‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬طلبا‭ ‬للرزق‭ ‬الحلال،‭ ‬وعملت‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬وقطر‭ ‬والامارات‭ ‬وبريطانيا،‭ ‬مجاهدا‭ ‬لـ«تكوين‭ ‬النفس‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬ذخيرة‭ ‬مالية،‭ ‬تجعلني‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬إعالة‭ ‬عائلتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬والممتدة،‭ ‬وعندما‭ ‬قادتني‭ ‬المقادير‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬‮«‬خبيرا‭ ‬أجنبيا‮»‬‭ ‬وتزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬تدشين‭ ‬اليانصيب‭ ‬الوطني‭ ‬‮«‬اللوتري‮»‬،‭ ‬تحول‭ ‬الهذيان‭ ‬بتكوين‭ ‬النفس‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬خطرفة‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬كلما‭ ‬اشتريت‭ ‬تذكرة‭ ‬لوتري‭ ‬جلست‭ ‬أدرس‭ ‬أسعار‭ ‬العقارات‭ ‬في‭ ‬‮«‬كان‮»‬‭ ‬و«نيس‮»‬‭ ‬و«الريفييرا‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة‭ ‬لتقصي‭ ‬أخبار‭ ‬يخت‭ ‬كان‭ ‬مملوكاً‭ ‬للمليونير‭ ‬المعروف‭ (‬سابقا‭) ‬عدنان‭ ‬خاشقجي،‭ ‬لأنني‭ ‬سمعت‭ ‬أنه‭ ‬باعه‭ ‬لشخص‭ ‬آخر،‭ ‬وكنت‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬اليخت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحظيرة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬واظبت‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬المجلات‭ ‬النسائية،‭ ‬رغم‭ ‬كرهي‭ ‬الشديد‭ ‬لمعظمها‭ ‬لركاكة‭ ‬وغثاثة‭ ‬محتوياتها،‭ ‬وكان‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬شرائها‭ ‬هو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬عروس‭ ‬‮«‬تكنولوجية‮»‬‭ ‬تناسب‭ ‬اليخت‭!!‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬استنزف‭ ‬اللوتري‭ ‬مدخراتي‭ ‬وقوت‭ ‬عيالي‭ ‬أدركت‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬لي‭ ‬الثراء‭ ‬الحرام،‭ ‬فأعلنتها‭ ‬توبة‭ ‬نصوحا،‭ ‬وطفقت‭ ‬وبمباركة‭ ‬أم‭ ‬العيال‭ ‬‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬عزباء‭ ‬أو‭ ‬مطلقة‭ ‬أو‭ ‬أرملة‭ ‬غنية‭ ‬‮«‬تسيِّدني‮»‬‭ ‬وهذه‭ ‬صيغة‭ ‬التذكير‭ ‬من‭ ‬‮«‬تستتني‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقال‭ ‬عن‭ ‬معاملة‭ ‬الزوجة‭ ‬كـ«ست‮»‬‭ ‬مدللة،‭ ‬ولأن‭ ‬أمي‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬التغزل‭ ‬بمحاسني‭ ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬أن‭ ‬مجرد‭ ‬نشر‭ ‬صورتي‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬أو‭ ‬مجلة‭ ‬كفيل‭ ‬بجعل‭ ‬الحسناوات‭ ‬يتهافتن‭ ‬علي‭ ‬كتهافت‭ ‬الفراش‭ ‬على‭ ‬الضوء‭ ‬والنحل‭ ‬على‭ ‬الورد،‭ ‬وهكذا،‭ ‬وعندما‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬البريطاني،‭ ‬وبإلحاح‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬التراث‭ ‬الوطني‭ ‬البريطاني‭ ‬ومجلس‭ ‬إدارة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬أن‭ ‬احرر‭ ‬زاوية‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬المشاهد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدرها‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ (‬باعتها‭ ‬لاحقا‭ ‬وصار‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬المشاهد‭ ‬السياسي‮»‬‭) ‬قبلت‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬تدلل‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬صورتي‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬الزاوية‭.‬

وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬أشهر‭ ‬استوديو‭ ‬فوتوغرافي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬والتقطت‭ ‬عدة‭ ‬صور،‭ ‬وطفق‭ ‬الفنيون‭ ‬يدخلون‭ ‬عليها‭ ‬التعديلات‭ ‬والرتوش،‭ ‬ولكن‭ ‬‮«‬مفيش‭ ‬فايده‮»‬‭. ‬أحسست‭ ‬أن‭ ‬الصور‭ ‬لم‭ ‬تنصفني،‭ ‬فلجأت‭ ‬إلى‭ ‬ارشيفي‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬لي‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬بالسنة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وكان‭ ‬شكلي‭ ‬وقتها‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬ناس‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬وقدمت‭ ‬الصورة‭ ‬إلى‭ ‬إدارة‭ ‬المجلة،‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬تلقيت‭ ‬اتصالاً‭ ‬هاتفياً‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬إنهم‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬صورتي،‭ ‬فقلت‭: ‬الله‭!... ‬كيف؟‭.. ‬لقد‭ ‬قمت‭ ‬بتسليم‭... ‬ولم‭ ‬أكمل‭ ‬الجملة،‭ ‬فقد‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬صلة‭ ‬بين‭ ‬الصورة‭ ‬وكاتب‭ ‬الزاوية،‭ ‬فتواضعت‭ ‬أكثر‭ ‬وقدمت‭ ‬إليهم‭ ‬صورة‭ ‬التقطتها‭ ‬بمناسبة‭ ‬استلامي‭ ‬لأول‭ ‬راتب‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية،‭ ‬وأفهمتهم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬كلام‭ ‬عندي‮»‬‭. ‬وتوالى‭ ‬نشر‭ ‬مقالاتي‭ ‬مصحوبة‭ ‬بالصورة‭ ‬وجلست‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مكالمات‭ ‬المعجبات‭ ‬والراغبات‭ ‬في‭ ‬الزواج،‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التواضع‭ ‬حيث‭ ‬قررت‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الحسناوات‭ ‬السمر‭ ‬والسوداوات‭ ‬لأسباب‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬ذهن‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬أنني‭ ‬أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭. ‬وهكذا‭ ‬جلست‭ ‬أنتظر‭ ‬مكالمات‭ ‬من‭ ‬ناومي‭ ‬كامبل‭ ‬وسمراوات‭ ‬هوليوود‭.‬

وبعد‭ ‬أشهر‭ ‬طويلة‭ ‬أتاني‭ ‬سعد‭ ‬باشا‭ ‬زغلول‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬مفيش‭ ‬فايدة‭. ‬وأدركت‭ ‬بعدها‭ ‬أن‭ ‬الحسناوات‭ ‬ذوات‭ ‬الجاه‭ ‬والثراء‭ ‬قصيرات‭ ‬النظر‭ ‬وقليلات‭ ‬الفهم‭. ‬وسارت‭ ‬الأمور‭ ‬من‭ ‬سيء‭ ‬إلى‭ ‬اسوأ‭ ‬عندما‭ ‬أبلغني‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬المجلة‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬أرسلوا‭ ‬برقيات‭ ‬غاضبة‭ ‬يطالبون‭ ‬فيها‭ ‬بإزالة‭ ‬صورتي‭ ‬من‭ ‬المجلة‭ ‬بأثر‭ ‬رجعي،‭ ‬ولم‭ ‬انفعل‭ ‬لذلك‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬لاعتقادي‭ ‬أن‭ ‬القراء‭ ‬يغارون‭ ‬مني،‭ ‬ولكن‭ ‬صاحبنا‭ ‬أفهمني‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬تلك‭ ‬البرقيات‭ ‬من‭ ‬‮«‬قارئات‮»‬،‭ ‬وهنا‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬حواء،‭ ‬اياً‭ ‬كان‭ ‬جنسها،‭ ‬ذات‭ ‬ذوق‭ ‬تالف،‭ ‬وتذكرت‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬علقمة‭ ‬بن‭ ‬عبده‭ ‬الفحل‭:‬

يردن‭ ‬ثراء‭ ‬المال‭ ‬حيث‭ ‬يجدنه‭ / ‬وشرخ‭ ‬الشباب‭ ‬عندهن‭ ‬عجيب

إذا‭ ‬شاب‭ ‬رأس‭ ‬المرء‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬ماله‭ / ‬فليس‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬ودهن‭ ‬نصيب

وهكذا‭ ‬رضيت‭ ‬بالقسمة‭ ‬والنصيب‭ ‬وتخليت‭ ‬عن‭ ‬أحلام‭ ‬الثراء،‭ ‬وأصبحت‭ ‬عدواً‭ ‬للمرأة‭ ‬باستثناء‭ ‬أم‭ ‬العيال‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬فيّ‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تره‭ ‬الأخريات،‭ ‬وتحملت‭ ‬هذياني‭ ‬و«خطرفاتي‮»‬‭ ‬وبؤس‭ ‬حالي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا