الصراع على أشده بين الدول الكبرى، فنحن نعيش لحظة تاريخية صعبة ستتقرر خلالها موازين قوى تنتج نظاما دوليا جديدا قد يسود عقودا قادمة، وفي مرحلة حساسة كهذه الجميع يعمل بجد واجتهاد وبذكاء، كل طرف يعمل على تجميع اوراق قوته ويحسب خطواته بدقة، فأي خطأ في الحسابات قد يأخذ صاحبه الى موقع المهزومين والخاسرين. وخلال ذلك قد لا تكون قوة الدول منفردة ذات قيمة، فالدول الكبرى ذاتها تتكتل وتتموضع بناء على حساب المصالح واحتمالات المستقبل.
اقليميا، على سبيل المثال، انشط المتحركين في هذا المجال الرئيس التركي اردوغان، الذي قلب توجهاته في الاسابيع الاخيرة رأسا على عقب، ويحاول التموضع تجاه الغرب من جديد مستخدما كل اوراق قوته، وخاصة الموقع الجيوسياسي المهم لبلاده في الصراعات القائمة، ويحاول التقارب مع دول الخليج، ويقوم بإبرام اتفاقيات امنية واقتصادية تقوي موقع تركيا.
تحركات مشابهة في آسيا، جنوب شرق القارة ووسطها، الدول تتحرك وتتموضع ضمن تحالفات إقليمية ودولية لتضمن لها تذكرة دخول للنظام الدولي القادم. والامر نفسه في إفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ فالجميع يراقب ويتحرك، يتقارب نحو حلفاء تقليديين له أو جدد، وفي النهاية للجميع الهدف ذاته ان يبقوا على قيد الحياة وأن يمتلكوا تأثيرا أكبر في لعبة الامم.
أما افريقيا فالصراع فيها أكثر وضوحا ويدور على أشده بين الصين وروسيا من جهة والغرب من جهة أخرى. فهذه القارة لا تزال تمثل لجميع الأطراف مناجم الذهب واليورانيوم وكل انواع المعادن والثروات، ودول القارة بالمقابل تبحث عن مكان لها في قطار التغيير. بعضها يراهن على روسيا والصين والبعض الاخر لا يزال يراهن على الغرب، وقسم اقل يبحث عن وضع مستقل يضع القارة في موضع منافس في السياسات الدولية والإقليمية، وتقود جنوب افريقيا مثل هذه التحركات، وخصوصا انها تستضيف قمة بريكس التي تضم الى جانب جنوب افريقيا كلا من الصين وروسيا والبرازيل والهند.
من دون شك ان عددا من الدول العربية تقوم بالشيء ذاته، وخاصة السعودية ودول الخليج، فهي تمتلك من أوراق القوة ما يجعلها جهة مطلب ودها والتقرب لها؛ فبالإضافة الى الموقع الجيوسياسي المهم، فإن هذه الدول تمتلك الثروات التي تمثل ورقة حاسمة في الصراعات الدائرة.
في شمال افريقيا تقوم الجزائر والمغرب كل على طريقته بالتحرك والتموضع مع حلفاء إقليميين ودوليين بهدف تعزيز موقع كل منهما في خارطة العالم الآخذة في التبلور. تبقى الدول العربية التي عانت منذ «الربيع العربي» كليا او جزئيا سوريا، ليبيا، اليمن. وحتى مصر وتونس والعراق، فهذه الدول اما تعاني من التفكك والانقسام او من ازمات اقتصادية تضعف من محاولاتها والقيام بتحركات فعالة. ربما مصر تمتلك قدرة أكبر من غيرها، بسبب اهميتها الجيوسياسية الحاسمة في صراع القوى الكبرى، لذلك فإن لديها من اوراق القوة ما يجعلها قادرة على التحرك بصورة فاعلة.
بالنسبة إلى فلسطين، هناك مخاوف حقيقية لدى الشعب الفلسطيني من ان يكرر التاريخ نفسه مع القضية الفلسطينية لتدفع ثمن ما يجري من متغيرات على الساحة الدولية، تماما كما حصل بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية.
ما تفتقر إليه الامة العربية، لتكون قادرة على الصمود في المرحلة الدقيقة، وأن تضع نفسها في موقع مقبول في النظام الدولي الجديد، هو عجزها في تحقيق قدر أكبر من التضامن فيما بينها، فالاعتقاد أن الخلاص يمكن ان تحققه كل دولة على حدة هو اقرب الى الوهم، وقد تستغل الدول الإقليمية الثلاث: إسرائيل وتركيا وإيران أوضاع العرب وتحقق المكاسب على حسابنا.
ولمعرفة اوراق القوة التي يملكها العرب، فمساحة الوطن العربي تبلغ 14 مليون كيلومتر مربع، اي أكثر بقليل من عشر مساحة العالم، كما يبلغ الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة 3 تريليونات ونصف التريليون، ما يعادل اقتصاد المانيا رابع اقتصاد في العالم، بالإضافة -وهذا هو الأهم-إلى الموقع الجيوسياسي الذي لا يضاهيه موقع اخر في العالم من حيث موقعه المتوسط بين اربع قارات، وسيطرته على اهم ممرات بحرية وبرية وجوية. كما تكمن اهمية الوطن العربي بثرواته وما لديه من احتياطيات نفط تزيد على 57% من الاحتياط العالمي، ولديه أكثر من 27% من احتياط الغاز.
من دون شك ان دول الخليج العربي هي الاكثر أهلية بين الدول العربية للعب دور مهم في الحاضر وفي المستقبل، وهي تحاول ذلك، ولكن ستكون هذه الدول في وضع أفضل بكثير ان هي اقتنعت بأنها ستكون اقوى بعد فرض تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وتكون مصر والعراق وسوريا الى جانبها. فإذا ما تحققت هذه التسوية ستكون دول الخليج وكل الدول العربية قد وضعت قدمها بالفعل في النظام الدولي القادم بقوة ومعها فلسطين، بل يكون العرب من اللاعبين المهمين في النظام الموعود.
لقد حاول العرب الاقلاع مرارا من دون ان تكون فلسطين على خارطة الشرق الأوسط، ولكن بقوا يراوحون في المكان ذاته، فغياب الاستقرار والسلام قد يهدد كل مشاريع التنمية في اي لحظة، لذلك فإن إقامة دولة فلسطينية هو حجر الزاوية لتحقيق كل ذلك. لا يمكن رسم اي خارطة للمنطقة تضمن الامن والاستقرار من دون إيجاد تسوية أكثر عدلا للقضية الفلسطينية على نحو يتضمن إقامة دولة فلسطين.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك