يحظى الأمن الغذائي باهتمام كبير في أجندة كوب (28)، مؤتمر تغير المناخ المقرر انعقاده بالإمارات، بسبب ما أدى إليه الاحترار العالمي في الفترة التي تسبق المؤتمر من أضرار بالغة لقطاع الزراعة والصيد البحري، وحرائق اجتثت مساحات شاسعة من الغابات، ما أدى إلى تعري الغطاء النباتي فيها، وما تؤدى إليه الحرب الروسية-الأوكرانية من تأثير على إمدادات الغذاء للدول التي تعتمد على الاستيراد من طرفي الحرب، وأيضًا الاحتراب الأهلي في السودان، الذي أحبط آمال العرب في التطلع إليه كسلة غذاء العالم العربي، كما أدت موجات التضخم التي تعم العالم إلى زيادة كبيرة في أسعار المواد الغذائية، ما أوجد صعوبة كبيرة للأسر الفقيرة في تأمين الحصول على غذائها، وأثقل ميزانيات العديد من دول العالم بأعباء دعم أسعار المواد الغذائية الضرورية، كما أن منطقة الخليج العربية التي تحتضن كوب 28 هي مستورد صاف للغذاء، يتصل الأمن الغذائي فيها بسلامة وسلاسة إمدادات المواد الغذائية، وتأمينها مخزونا استراتيجيا وتجاريا كافيا منها، وقدراتها الذاتية على إنتاج الغذاء اعتمادًا على التكنولوجيا المتقدمة في قطاع الزراعة.
وكانت الجهود الدولية في 2022 قد أسفرت عن التوصل إلى اتفاقية حبوب البحر الأسود، التي تحيد تدفقات الحبوب من روسيا وأوكرانيا في العمليات العسكرية الدائرة بينهما، ما أدى إلى خفوت حدة المخاوف بشأن حدوث أزمة غذائية عالمية، ولكن الحديث عن هذه الأزمة قد تجدد بسبب انسحاب روسيا من هذا الاتفاق، وتدمير موانئ الحبوب الأوكرانية، وإعلان الهند حظر صادراتها من المواد الغذائية، ويأتي هذا مع استمرار التأثير السلبي للتغيرات المناخية، وتأثير الكوارث الطبيعية على إنتاج المحاصيل، وفيما رفع إعلان الهند حظر صادراتها الغذائية أسعار الأرز بنسبة 15%، فإن انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب تسبب في أكبر زيادة لأسعار القمح والذرة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. وفي العام الماضي أشارت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أنه ما بين 691 و783 مليون شخص كانوا معرضين للجوع، بزيادة 122 مليون شخص عن 2019، فيما كان يواجه نحو 345 مليون شخص مستويات حادة من الجوع، وهذه الأرقام مرشحة للزيادة في عام 2023.
وفضلاً عن الأحداث السياسية، تعتبر التغيرات المناخية من أكبر التحديات التي تواجه العالم حاليًا، لجهة تأثيرها على قطاعي المياه والزراعة. وتهدد التغيرات المناخية الأمن الغذائي العالمي لنحو 40% من إجمالي المحاصيل، بسبب موجات الحر والجفاف والعواصف والفيضانات المدمرة وشح الموارد المائية، وقلة معدلات الأمطار، وزيادة وتيرة الكوارث الطبيعية في كل قارات العالم، ما يجعل التطلعات نحو حلول حقيقية لتحسين وضع الأمن الغذائي العالمي من أهم محاور كوب (28) أكثر من أي وقت مضى. ويأتي هذا مع توقعات ارتفاع عدد سكان العالم، وخاصة في البلدان النامية والفقيرة، التي تعاني أساسًا من شح الموارد الطبيعية ونقص الغذاء، وما يفرضه ذلك من تحدي زيادة في الإنتاج الزراعي والغذاء في العالم بحوالي 60% لتلبية الطلب المتزايد على الأغذية والمحاصيل الزراعية. ومع التغير المناخي تختل دورة المياه، وهو ما يتسبب في اضطراب كبير في مردود الزراعة المروية والمطرية. وارتفاع درجات الحرارة يؤثر على الغلاف الجوي، ومن ثم التبخر وزيادة الجفاف، ما يبرز الحاجة في كوب 28 إلى اتفاقية جديدة مكملة لاتفاقية باريس 2015 تخص الدورة المائية لكل الأرض.
وإضافة إلى هذا المقترح، فإن الاهتمام بقضية الأمن الغذائي في كوب (28) يطرح بعض أفكار مبتكرة للمساهمة في معالجة مشكلات سوء التغذية وهدر الطعام، وتعزيز الابتكار في الزراعة الذكية، عن طريق توفير التمويل، وفق ما اسفرت عنه قمة واشنطن في مارس 2023 بين الإمارات والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
وفي أواخر يوليو الماضي في كلمته خلال الاجتماع الوزاري لمجموعة العشرين المعني بالاستدامة المناخية في مدينة «تشيناي» الهندية، شدد «سلطان الجابر» الرئيس المعين لقمة المناخ (28) على أن الممارسات الحالية تسهم في فقدان التنوع البيولوجي، وتراجع جودة الأراضي الزراعية، وانخفاض مستوى الأمن الغذائي، داعيًا إلى تكاتف الجميع من أجل معاونة الدول الأكثر تضررًا من تداعيات تغير المناخ، وأكد أن إحراز تقدم في التكيف المناخي يتطلب وضع معايير واضحة للنجاح، عبر مجموعة أهداف منها: حماية التنوع البيولوجي، واستعادة الأراضي الزراعية، والحفاظ على الغابات، وحماية السواحل من التآكل، وضمان عدم تعرض أي شخص للجوع.
ودعا «الجابر» إلى تضمين الاستراتيجيات والخطط الوطنية تعزيز الاستخدام المستدام للأراضي، والاستفادة من التقنيات الحديثة لزيادة مرونة المحاصيل، وتحسين النظم الغذائية، والحد من الآثار المناخية على المنظومة الزراعية. وفيما يؤثر ضعف الأمن الغذائي على الصحة، فإن كوب (28) ستكون أول قمة تسلط الضوء بشكل واضح على الترابط بين تداعيات تغير المناخ والصحة العالمية، وخصصت في برنامجها وموضوعاتها يومًا للصحة، كما تستضيف بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية اجتماعًا وزاريًا للمناخ والصحة.
وتسعى الإمارات من خلال تناول قضية الأمن الغذائي في كوب (28) إلى حشد تعاون دولي من أجل تعزيز المساهمة الاقتصادية للقطاع الزراعي، وتوفير فرص عمل أكبر في هذا القطاع الحيوي الذي يوفر أكثر من 2 مليار فرصة عمل، ويوفر الغذاء لكافة سكان الأرض، وتعد مبادرة الابتكار الزراعي التي أطلقتها الإمارات مع الولايات المتحدة من أبرز الخطوات التي شهدها العالم مؤخرًا لتسريع التحول المنشود في النظم الغذائية، وصولاً إلى تحقيق ثاني أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في القضاء التام على الجوع بحلول 2030، وتركز على تسريع ابتكار أنظمة زراعية وغذائية تدعم العمل المناخي. وتضمنت المبادرة منذ انطلاقها في يونيو 2021 تعهدًا باستثمار أربعة مليارات دولار في أنظمة ومشاريع زراعية مبتكرة حول العالم. وفي مايو 2023 تم إعلان زيادة هذا الاستثمار إلى أكثر من 13 مليار دولار، بالإضافة إلى نمو عدد شركاء المبادرة إلى أكثر من 500 منظمة حكومة وغير حكومية، وفي سياق متصل انضمت الإمارات إلى مبادرة «التطور الزراعي» بقيادة المملكة المتحدة، التي تسعى بشكل أساسي إلى جعل الزراعة الأكثر مقاومة للمناخ الخيار الأكثر جاذبية واعتمادًا لدى المزارعين في جميع أنحاء العالم بحلول 2030، وذلك إدراكًا منها لتوافقها مع أهداف مبادرة الابتكار الزراعي للمناخ. واتصالا بقضية الأمن الغذائي، أطلقت مبادرات «محمد بن راشد آل مكتوم» العالمية مبادرة المليار وجبة، ودعما بمقدار 5.5 ملايين درهم إلى صندوق الأمم المتحدة الاستئماني «يونيت لايف» من أجل دعم وتيرة الحلول المبتكرة في مجال الزراعة وتمكين النساء والأمهات ومكافحة سوء التغذية لدى الأطفال ولا سيما في السنغال والنيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
كما تسعى كوب (28) إلى دعم الجهود الدولية للحد من فقد وإهدار الغذاء، وتطوير وتسريع المبادرات ذات الصلة لتعزيز الأمن الغذائي بما فيها حض الحكومات والمؤسسات وقطاع الأعمال، لتسريع التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بخفض مستوى هدر الأغذية للفرد إلى النصف في مراحل البيع بالتجزئة والاستهلاك، والحد من الخسارة على طول سلاسل الإنتاج والتوريد بما في ذلك خسائر ما بعد الحصاد.
وسيكون كوب (28) فرصة كبيرة أمام الدول العربية التي أصبحت منكشفة في أمنها الغذائي بسبب الأحداث السياسية، والمشروعات التنموية في دول الجوار، كمشروعات السدود في تركيا وتأثيرها على تدفق المياه إلى دجلة والفرات ومشروع سد النهضة الإثيوبي وتأثيره على تدفق المياه إلى السودان ومصر، إضافة إلى التغيرات المناخية وتأثيرها على الأمن المائي والغذائي العربي. ووفق تقرير أممي صادر في مارس عن عدد من وكالات الأمم المتحدة والمكاتب الإقليمية بعنوان: «الشرق الأدنى وشمال إفريقيا: نظرة إقليمية عامة حول حالة الأمن الغذائي والتغذية عام 2022، التجارة كعامل تمكين للأمن الغذائي والتغذية» كشف أن ما يقدر بنحو 53.9 مليون شخص عانوا من انعدام الأمن الغذائي الشديد في المنطقة العربية في 2021، بزيادة بنسبة 55% عن عام 2010، و6 ملايين شخص عن العام السابق، كما أن نحو 162.7 مليون شخص لم يتمكنوا من تحمل كلفة نمط غذائي صحي، البالغة نحو 3.47 دولارات للفرد في اليوم، وفي مقابل هذا فإن ما نسبته 28.8% من إجمالي السكان البالغين يعانون من السمنة، وهذه النسبة أكبر من ضعف المعدل العالمي.
ويذكر التقرير أن الجوع في العالم العربي قد ارتفع بنسبة 90% في غضون 20 عاما، وأن هناك 141 مليون شخص أي نحو ثلث سكان العالم العربي يعانون من انعدام الغذاء المعتدل، وفاقم ذلك ارتفاع معدلات التضخم، فيما تستورد الدول العربية أكثر من 50% من احتياجاتها الغذائية، ويعتمد الكثير منها على إمدادات الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بما يسهم في ارتفاع فاتورة الاستيراد.
ويأتي هذا رغم أن مساحة الأراضي العربية الصالحة للزراعة تقدر بنحو 220 مليون هكتار، يتم استغلال ثلثها فقط، وتعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق تأثرًا بالتغيرات المناخية، وتأثيراتها على القطاع الزراعي والأمن الغذائي نتيجة الانخفاض الكبير في هطول الأمطار.
إلى جانب هذا تحتاج البلدان العربية إلى توسيع قدراتها الإنتاجية الزراعية رأسيًا وأفقيًا، وتعزيز التصنيع الغذائي، وتطوير البنية التحتية للإنتاج والحفظ والنقل والتداول وتقليل الفاقد من المنتجات الغذائية. وستكون مناقشة وضع الأمن الغذائي في العالم العربي فرصة لحشد الإرادة السياسية الدولية والإقليمية نحو إنهاء حالة الاحتراب الأهلي لدولة (السودان) التي لديها 84 مليون هكتار صالحة للزراعة، لا تزرع أكثر من 20% منها، ولديها ثروة مائية غير متوافرة لأي بلد عربي آخر، بينما يعاني أكثر من 9.8 ملايين سوداني من الجوع الحاد وفقًا لـ«الفاو»، وبالقطع فإن هذا الرقم قد زاد نتيجة الاحتراب الأهلي.
ولما كانت قضايا الأمن الغذائي تشكل أولوية قصوى في اهتمامات قادة دول مجلس التعاون الخليجي وأن تحقيق الأمن الغذائي الخليجي يعتبر هدفًا ثابتًا فسيكون كوب (28) قوة دفع نحو تطوير استراتيجية خليجية مشتركة للأمن الغذائي، وإنشاء لجنة التعاون الزراعي المعنية بتنسيق الأمن الغذائي الموحد لدول المجلس، فيما تدعم دول المجلس في نفس الوقت الجهود السلمية الرامية إلى حل الأزمة الروسية الأوكرانية والأزمة في السودان، بل تقدم مبادرات في هذا الشأن. ودعا الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي «جاسم البديوي» في 16 أغسطس إلى استئناف اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، كما ستكون كوب (28) فرصة لتبادل الخبرات بين مجلس التعاون الخليجي والمجموعات الإقليمية فيما يتعلق بإدارة ملف الأمن الغذائي إقليميًا، كالمبادرة التي تبنتها منظمة جنوب شرقي آسيا «الآسيان» مع الصين واليابان لنظام معلومات الأمن الغذائي الذي يحسن قدرة رصد حالات ومؤشرات الأمن الغذائي والتنبؤ بها ومن ثم التعامل معها عبر الآليات القائمة أو المستجدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك