سينيد أوكونور مغنية وكاتبة أغاني إيرلندية عالمية شهيرة توفيت مؤخرا عن عمر ناهز 56 عاما. خلال الأيام التي مرت ما بين وفاة ودفن سينيد أوكونور كان هناك سيل من المديح للمغنية الإيرلندية. أشارت التقارير الإخبارية ومقالات الرأي في وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة الأمريكية وإيرلندا إلى صوتها الشجاع والملهم.
إذا كان هناك من درس يمكن أن نتعلمه من حياة سينيد وردود الفعل على وفاتها، فمن الأهمية بمكان دعوة المؤسسات والأمم إلى التمعن في خطايا الماضي والفوائد التي يمكن أن تعود على الأجيال القادمة عند حدوث مثل هذا الحساب.
لقد دافعت سينيد بكل ما أوتيت من قوة عن عديد القضايا، وقد كان بينها جميعا قاسم مشترك واحد، إنه الإحساس بالظلم، غير أنه من الأفضل أن نتذكرها لظهورها على التلفزيون الوطني وتمزيقها صورة البابا يوحنا بولس الثاني أثناء دعوة الجمهور إلى «محاربة العدو الحقيقي».
لقد رأى البعض فيما قامت به سينيد يومها عملا لا يغتفر. ظل ذلك الحادث يطاردها وتسبب في خروجها عن مسارها بعض الوقت وقوض مسيرتها، ولكن ليس في نظر العديد من معجبيها في إيرلندا.
إيرلندا دولة كاثوليكية إلى حد كبير غير أنها تفهمت غضب سينيد. كانت زوجتي إيلين شديدة التعلق بتراثها الإيرلندي وإيمانها الكاثوليكي. كنا نزور بانتظام جزيرة إميرالد وقد كنا هناك في أوائل التسعينيات من القرن العشرين الماضي.
في ذلك الوقت امتلأت الصحف بقصص عن «دور التهذيب» التي يودع فيها الأطفال وعن البيوت التي يرسل إليها «الأطفال الجانحون» وعن النساء الحوامل غير المتزوجات اللائي يتعرضن للإيذاء والعبودية القسرية، وعن الأمهات الحوامل اللائي يجبرن على العمل وكيف أن أطفالهن ينتزعن منهن بمجرد ولادتهم.
ونشرت الصحافة الإيرلندية صفحات صور ومقابلات مع نساء، وهي صور توضح بالتفصيل الانتهاكات التي تعرضن لها وآلام خسارتهن، كما تم الكشف عن قصص عن أمهات وافتهم المنية أثناء الولادة وأطفال ماتوا (6000 في المجموع) ودفنوا في مقابر جماعية. وقد تفاقمت هذه التقارير في خضم الأخبار التي تتحدث عن الاعتداءات الجنسية التي يرتكبها رجال الدين.
عندما كانت سينيد في سن الرابعة عشرة من عمرها اتهمت بالسرقة وحُكم عليها بالسجن مدة عام ونصف العام في «دار للتهذيب»، وقد عرفت من كثب الظروف المهينة في هذا السجن.
لم تهدأ وسائل الإعلام والقادة السياسيون الإيرلنديون حيث إنهم نشروا القصص والافتتاحيات والبيانات من قبل المسؤولين المنتخبين، كما انضم إليهم العديد من الكاثوليك الذين شاركوا سينيد غضبها. لقد تم تحميل الكنيسة الكاثوليكية في إيرلندا المسؤولية عن ماضيها وقد ظل يؤثر ذلك فيها حتى وفاتها.
في الوقت الذي يتم فيه تكريم إرث سينيد المتمثل في المطالبة بالمساءلة عن مظالم الماضي، لا يسع المرء إلا أن يقارنه بالقصص الإخبارية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية التي أظهرت أن السياسيين الأمريكيين والأساقفة الكاثوليك الأمريكيين لا يرفضون الاعتراف بماضي الدولة والكنيسة فحسب، بل إنهم يسعون إلى محو آثاره تماما وطمسها.
على سبيل المثال، يطالب حكام الولايات الجمهوريون والمسؤولون المنتخبون الآخرون في فلوريدا وتكساس وفيرجينيا بتغييرات في الطريقة التي يُدرس بها تاريخ أمريكا المؤسف من العبودية والعنصرية في المدارس.
وفي محاولة فظة «لتبييض» إرث العبودية، يتم تصوير تلك المؤسسة الشائنة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية على أنها هي التي تعلم فيها بعض السود المهارات التي أفادتهم بعد انتهاء فترة العبودية. لذلك فقد تم استبعاد الحديث بالتفصيل عن أهوال وفظائع الفصل العنصري في جيم كرو وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون التي أودت بحياة الآلاف. إنهم يريدون ماضيا خاليا من الذنب، بعيدا عن أي مساءلة.
لا تعتبر الاعتداءات الجنسية بالأمر الغريب على الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية أو بعض المؤسسات الدينية الأخرى. لا يزال حتى اليوم يتم الإبلاغ عن القصص المروعة عن سوء المعاملة على نطاق واسع، غير أنه سرعان ما يتم نسيانها وتجاوزها، لأن القادة الدينيين في الولايات المتحدة الأمريكية يقفون صفا واحدا في مواجهة مشاكلهم باسم «حماية مؤسساتهم»، كما أنهم يعملون على تغيير الموضوع من خلال تأكيد أن المشاكل الحقيقية تكمن في مكان آخر.
وبينما اضطرت إيرلندا وكنيستها إلى التصالح مع الماضي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وكنائسها ومؤسساتها الدينية لم تتصالح أبدا مع أخطائها، بل إنها تسير في الاتجاه المعاكس مقارنة بما حدث في إيرلندا.
قارن بين التستر المخزي الذي قام به أساقفة الولايات المتحدة واعتذار البابا فرنسيس للشعوب الأصلية في كندا عن دور الكنيسة في محو تاريخهم وثقافتهم أو لقاء البابا فرنسيس الأخير في البرتغال مع ضحايا إساءة معاملة رجال الدين.
قارنوا بين هذا الاعتراف والاعتذار بفشل أمريكا في الاعتراف بتاريخها وجرائمها. هذا الرفض للاعتراف بالمسؤولية عن مظالم الماضي وقبولها دفع أبناء وطني وشركائي في الدين إلى الإصرار على براءتنا الجماعية بينما يقدمون مزاعم وهمية عن الفضيلة. لقد أصبحت عادة لا يمكننا التخلص منها، مع ما يترتب على ذلك من عواقب على سلوكياتنا الحالية والمستقبلية.
لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت الأسلحة النووية، وقد فعلنا ذلك دون إخبار اليابانيين بالتأثير الطويل المدى للإشعاع على المدنيين، الذين استمروا بعد سنوات في المعاناة من التسمم الإشعاعي.
أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية ملايين الأطنان من القنابل على فيتنام وأفغانستان والعراق، ما أسفر عن مقتل ملايين الأبرياء. في أواخر العقد الماضي استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية التعذيب كسلاح لانتزاع المعلومات من السجناء وحاولت تبرير هذه الممارسة بـ«مذكرات قانونية» مفصلة بشكل صادم كتبها مسؤولو إدارة بوش.
على الرغم من هذا التاريخ القاتم والشنيع، تستمر أمريكا في المطالبة ببراءتها وحقها في أن تكون حاملة لواء الفضيلة في العالم. هذا الشعور بالإفلات من العقاب إنما يأتي من غياب المساءلة عن أخطاء وانتهاكات الماضي، على عكس إيرلندا والكنيسة الكاثوليكية الإيرلندية اللتين أجبرتا على الاعتراف بانتهاكات الماضي.
هذا إذن هو أحد الدروس البليغة والمستفادة من حياة وموت سينيد أوكونور: أهمية دعوة الدول والمؤسسات إلى تحمل المسؤولية عن ماضيها، والتحلي بالتواضع وإمكانية تغيير السلوك الذي يمكن أن يصاحب هذا الاعتراف بالذنب وبانتهاكات الماضي.
- سينيد أوكونور اعتنقت الإسلام وغيرت اسمها ليصبح «شهداء صدقات»
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك