لم يكن د. يوسف إدريس كاتباً فذا وحسب، بل كان كاتباً نجماً، ومبدعاً محلّقاً، ورائياً للمستقبل، ومناضلاً صاحب أحلام ومواقف جسّدت كلّ ما ابتغاه من الحياة.
لقد قيّضت لي المحبة، فذهبت ُإليه لألتقيه في حوار أدبي حين جاء إلى مدينة دمشق عام 1986 ضيفاً على مهرجانها السينمائي، فحظي بتكريم رسمي، وبتكريم آخر شعبي، لم يعرف معانيهما أيّ من ضيوف المهرجان.
ذهبتُ إليه متهيباً لأمرين اثنين: الأول – سيرته الحياتية الباذخة في البناء والنبل والمعاني الوطنية تجاه الآخرين من جهة، وتجاه القضايا المؤرقة من جهة أخرى، وثانيهما – سيرته الأدبية المدهشة بجمالياتها، وحداثتها، ومغايراتها، وجرأته على التجريب واشتقاق الدروب الابداعية الجديدة وافتراعها.
جالستُه حوالي ست ساعات، كتبت خلالها حوالي 80 ورقة هي إجاباته عن أسئلتي، لأنّ الحوار رام وتطلع الى ما لم يُعرف عنه في حياته وكتاباته من تفاصيل، وانتقاله السلس بين أجناس الأدب جميعاً، وكأنها، في اجتماعها، هي لعبته المفضلة، وببراعة ميّزته عن غيره من الأدباء والمبدعين في مصر والبلاد العربية في آن؛ وهذا ليس بغريب لأنّه، وكما قال لي مشى في درب الأدب كعاشق، بعدما ضحّى بشغفه للطب الذي نذر حياته له.
موهبة يوسف إدريس، منذ بداياته، تجلّت باعتراف هائل من قبل د. طه حسين حين الذي قدّم له كتابه الثاني «جمهورية فرحات»، بعد أن قُرئت عليه قصصه الأولى«أرخص الليالي»، فصارت كلّ قصة قصيرة ينشرها حدثاً منتظراً وخبراً طالعاً في المشهد الثقافي المصري، مثلما صار انتقاله من عالم القصة القصيرة إلى عالم المسرح، أو عالم الرواية حالاً لدراسة المضايفات الجديدة التي غمرت أدبه، ولهذا قال نقّاد أدبه إنه كاتب مجدّد، يكتب نصوصاً أدبية لا تحاكي نصوص أحد من أدباء العرب والعالم، نصوصا عرفت ببصمتها المصرية وهي تعالج أصعب القضايا الاجتماعية وأخطرها، نصوصا لا تغادر معطيات العقل، ولا تفرط بمقتضيات الأدب والفن ومتطلباتهما، كما أنها لا تحيّد موضوعاً يورّث المجتمع هموماً جديدة، نصوص رامت التنوير، والارتقاء، ومحو الإحباط، والزيف، والرضا الكذوب الذي غلّفته العاداتُ والتقاليدُ بقداسة هشّة.
ولأنّ أدب د. يوسف إدريس درس كثيراً، فلن أتلبّث عنده هنا، كي أمضي إلى مواقفه، وما أبداها وهي تعيش هموم المواطن العربي الحي، فقد غادر مصر عام 1954 إلى الجزائر كي يقاتل الفرنسيين هناك مع ثوّار الجزائر في جبهة التحرير، وقد خاض معارك عدة، وأصيب بجروح عدة، وبقيت بعض شظايا الرصاص في جسده، وكان سعيداً بها لأنها سترافقه الى قبره، ولم يعد إلى القاهرة إلا عندما حدث العدوان الثلاثي على مصر، ومن القاهرة ذهب إلى بورسعيد والإسماعيلية وشارك في أعمال المقاومة، وكتب عنها قصصاً باقيات!
أما القضية الفلسطينية، فقد عاشها د. يوسف إدريس بكلّ تفاصيلها، ليس عبر ما كتبه من مقالات في جريدتي الجمهورية والأهرام مرحباً بانطلاقة الكفاح المسلّح الفلسطيني عام 1965، وإنما بالعلاقات والمواقف والسلوكيات التي عاشها، فقد كان واحداً من الأدباء المصريين الذين حرصوا على الحديث في إذاعة فلسطين من راديو صوت العرب، وواحداً من كبار أدباء مصر الذين رحّبوا بأدباء فلسطين وشعرائها في القاهرة، منهم: علي هاشم رشيد، وهارون هاشم رشيد، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، وكامل السوافيري، ولا سيما بعد عام 1967.
وفي عام 1970، وبعد ما حدث من أحداث آنذاك، نادى بضرورة المحافظة على الثورة الفلسطينية أيقونة العرب، وحلمهم الجميل المستند الى معاني الحرية وأشواقها الطفوح.
وفي عام 1972، وحين اغتيل غسان كنفاني مرّ بمقاهي القاهرة، ودعا المثقفين إلى الخروج في تظاهرة جابت شوارع القاهرة ببعض اليافطات التي خُطّطت على عجل، وببعض الأعلام الفلسطينية، شجباً وإدانة لاغتيال غسان كنفاني، وحين كتب عن الأدب الفلسطيني، كتب عن أدب جديد يدخل مدونة العرب لأول مرة، هو أدب المقاومة المكتوب في الوطن الفلسطيني، وفي الشتات.
وحين سألته، في حواري، عن محمود درويش، قال لي: إنه ليس شاعراً فقط، إنه ظاهرة إبداعية، شأنه في ذلك شأن ظواهر إبداعية فلسطينية أخرى، مثل: جبرا إبراهيم جبرا، ود. إحسان عباس، ود. إدوارد سعيد، وغسان كنفاني، وأنيس صايغ، وقال لي: مرجعية هذه الظواهر الإبداعية ليست الثقافة والمعرفة والفنون وحسب، بل هي سيرة الشعب الفلسطيني التاريخية، هذا الشعب الذي ظلّ عصياً على الاندثار والانحناء رغم كلّ ما تعرّض له من أذيات مهولة لأنه شعب خُلق للعمران والحضارة والإبداع في برزخ حضاري واقع بين قارتي آسيا وإفريقيا، برزخ هو مرجعية في كلّ أشكال النضال الوطني والعالمي! في ذكرى رحيل يوسف إدريس الأديب المبدع والمناضل.. أسمع صوت قلبي يناديه.
{ كاتب وروائي من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك